اجرت ايلاف في الخامس من مارس الجاري استفتاء بين عدد من المثقفين العرب حول دور المثقفين في ثورة الشباب. وقبل ان ادخل في الموضوع لابد لنا من تقديم تعريف اجرائي للمثقف.
المثقف في تعريف مبسط هو كل من ساهم ويساهم في إنتاج المعرفة الثقافية، من أدب وشعر ورواية وفن وفلسفة وعلوم إنسانية وطبيعية وغيرها باعتباره عضواً في مجتمع ويكتسب معرفته وثقافته منه ويعيد انتاجها ثقافيا. وليس من الضروري ان يمثل المثقف طبقة معينة، فالمثقفون عموماً ينتمون الى فئات وشرائح وطبقات اجتماعية مختلفة، ولكن ما يجمعهم هو كونهم laquo;منتجي ثقافةraquo; وتتحدد وظيفتهم بالدور الريادي الذي يقومون به في الدفاع عن حرية الفكر وازدهاره ومساهمتهم الفاعلة في عملية توعية وتنوير الأفراد وإخصاب معارفهم وتوسيعها مثلما يتحدد دورهم في نوع الثقافة التي ينتجونها ويطورونها وينقلونها الى الآخرين، وكذلك الكلمة التي يبدعونها والمسحة الجمالية التي يضيفونها الى العمل الثقافي التي تضفي عليه laquo;هالتهraquo; وأصالته وفرادته.
والمثقف منتج معرفة نظرية، بمعنى انه يقوم بجهد فكري وليس عضلياً، وهذا يؤدي بنا الى تعريف نوعي للمثقف وكذلك لوظيفته ودوره، الذي يمكن إيجازه بقدرته على امتصاص الهَم الفكري والثقافي والمجتمعي واعادة انتاجه في عمل ثقافي يشارك في رفع المعاناة والبؤس والقدر الأعمى الذي يطال الإنسان ويثقل كاهله عن طريق رفع وعي المجتمع بذاته والتعبير عنه والتعريف به ونقده والمساهمة في تطوير أساليب التفكير والعمل والشعور وترويض السلوك الاجتماعي والثقافي ورفعه الى ما هو أرقى واجمل.
ومن الناحية السوسيولوجية فاشكالية المثقف لا تنفصل عن إشكالية الثقافة السائدة، التي بدورها لا تنفصل عن إشكالية المجتمع وأزمته وتأزمه، فهناك علاقة عضوية وجدلية تربط بين المثقف والثقافة وبينهما وبين المجتمع. ومن هنا تأتي أهمية المثقف النوعي وليس المهمش، والتنويري المتحرر من أوهام الوصاية، الذي يكتشف ذاته ويعرفها وينقدها نقدا ذاتيا. وهي مهمة لا يمكن ان تكون فاعلة ومؤثرة الا باستخدام المنهج النقدي العقلاني الذي يقف ضد الامتثال والوصاية والتبعية والتوجيه. وبمعنى آخر استخدام منهج نقدي يربط الفكر بالممارسة العملية ربطاً جدلياً، داخلياً وليس سطحياً.
والمثقف النوعي هو المثقف الفاعل المبدع والمبتكر، وليس الساكت والمقلد المحاكي. هو الذي يسعى
الى معرفة الحقيقة دون ان يدعي امتلاكها، لا كالقائد السياسي، فهذا ليس دوره وانما يتحدد دوره، بمقدار مشاركته في عملية التواصل والتفاعل والحوار والتثاقف والتثقيف وتغيير المنظومة الذهنية والقيمية التقليدية القديمة التي تقف عائقاً أمام التطور والتحديث الاجتماعي والثقافي والسياسي وتساعد على تغيير منظومة القيم الأبوية-البطريركية المهيمنة على الفرد والمجتمع والثقافة وما ينتج عنها من ثقافة تغالبية قمعية.
ان الخوف من الانا والاخر ومن سلطة الدولة وسلطة المجتمع الذي يستولي على المثقف يضع احيانا حواجز ومطبات امام المثقف تعيق انعتاقه وتحرره وليس أمامه من خيارات، أما ان يكون تابعاً، أو ان يغترب عن نفسه ويتحول الى الرموز والإشارات والتأويلات لإيصال صوته واسماع صرخته التي بالكاد يرجع صداها الى من اغلق آذانه بالشمع الأحمر أو ان يهرب الى اقرب منفى.
في مثل هذا المناخ الثقافي المحمل بالتقليد والتسطح والاستبداد تختفي التلقائية وروح النقد والتغيير والتسامي والإبداع وتحل محلها روح التقليد والمحاكات والتزلف والخضوع، ويتحول النشاط الثقافي لخدمة السلطة وأهدافها القريبة والبعيدة، عن طريق تنميط الثقافة وتشكيلها وفق مقاييسها وايديولوجيتها، لتقود في الاخير الى نفي المثقف وإلغاء دوره التنويري الطليعي وتحويله الى مجرد واجهة سياسية. هكذا يتحول الى أداة من أدوات السلطة، ان لم يتحول في بعض الأحيان، الى سلطة موازية لسلطة الدولة وايديولوجيتها ويتحول بالتدريج الى مثقف quot;أدواتيquot; يفقد وظيفته التنويرية وكذلك رسالته النقدية ويتحول الى مثقف مهمش وملحق وتابع لجهاز الدولة .
غير ان المثقف النوعي الواعي والمنور يقوم بدوره بصورة مباشرة وغير مباشرة، ولكنه بالتأكيد دور ايجابي، لان صورة المثقف الداعية بدأ ينحسر وراء صوت الانترنت والفيس بوك والتويتر وغيرها التي انتجتها ثورة الاتصالات الالكترونية الحديثة التي قلبت موازين القوى في العالم لصالح الشعوب.
فبعد ان كانت كلمة المثقف في منتصف القرن الماضي تلهب الجماهير و قصيدة الشاعر تشعل لهيب انتفاضة، كما فعلت قصيدة الجواهري المشهورة عام 1948 : اتعلم ام انت لا تعلم بان جراح الضحايا فم، التي تلاقفتها الجماهير ورددتها واسقطت معاهدة بورتسموث وكادت ان تزلزل العرش الملكي، لم تعد للقصيدة الكلاسيكية والكلمة الحماسية اليوم الدور الذي لعبته في منتصف القرن الماضي، فالدنيا قد تغيرت ومن غيرها هو ثورة الاتصالات الالكترونية الحديثة التي تحولت الى ادوات quot;ثوريةquot; جديدة تحمل للشباب مشعل الحرية والديمقراطية والتغيير.
لقد ولى عهد الثورات الكلاسيكية والانقلابات العسكرية ولم يعد اليوم تغيير الطغاة كافيا وانما الانظمة التي فرخت هؤلاء الطغاة. فجيل الشباب لا يعتمد اليوم على ايديولوجية محددة ولا على حزب معين ولا علىquot; كارزماquot;، زعيم او قائد شعبي. هذا الجيل لا ينظر الى الماضي ولا الى الحاضر، وانما الى المستقبل، لأنه مستقبله هو، ويريد بنائه بيده وليس الحاكم. هذا الجيل كسر حاجز الخوف ونفض عنه الانكسار الذي خلفته الازمات والحروب والاستبداد والانكسارات العربية المتوالية.
هذا الجيل يخلق ايضا مثقفه النقدي المنور ، الذي يقف وراء هذه التحولات. فهو الذي حرك ويحرك الوعي وينير الطريق بافكاره وانتقاداته ولو بصورة غير مباشرة. ان الكلمة والقصيدة واللوحة الفنية والاغنية والرواية ، النقدية الجديدة وغيرها، هي في وعي الشباب وتلعب دورها الطليعي في تحريكهم، ولكن بصورة غير مباشرة ومن خلال وسائل الاتصال الالكترونية الحديثة.
- آخر تحديث :
التعليقات