يعتبر عقد الخمسينات من القرن الماضي في العراق من اخصب العقود واغناها من ناحية التقدم الاجتماعي والثقافي والتسامح الديني والسياسي، تمتع فيه العراقيون نسبيا بهامش من الحرية والحركة السياسية، مثلما انتج افضل رجال الفكر والاجتماع والاقتصاد والسياسة. في ذلك العقد المتميز بشيء من الانفتاح استطاع حنا بطاطو جمع معلومات قيمة عن المجتمع العراقي والطبقات الاجتماعية بمثابرة وموضوعية ولم يجعل من نفسه نصيرا منحازا الى طرف دون آخر او ان يقدم مساهمة مثيرة للجدل.

ولد حنا بطاطو في القدس عام 1926 ودرس في اميركا، وفي نهاية الخمسنيات قدم اطروحته للدكتوراه في جامعة جورج تاون حول، quot;الفلاح والشيخ في النظام الاقطاعي في العراقquot;، ثم انتقل الى بيروت وعمل في الجامعة الامريكية حتى عام 1982، انتقل بعدها الى الولايات المتحدة الاميريكية، بعد ان ضاق به المقام في بيروت بسبب الحرب اللبنانية، واصبح استاذا في جامعة هارفرد ثم في جامعة جورج تاون، حيث تفرغ فيها للبحث العلمي الاكاديمي وانجاز كتابه الموسوعي عن العراق الذي صدر عام 1978 باللغة الانكليزية وقام بترجمته الى اللغة العربية عفيف الرزاز عام 1995. كما اصدر بطاطو كتابا مهما آخر عن سورية صدر باللغة الانكليزية عام 1999 وجاء بعنوان quot; فلاحو سورية وابناء وجهاء الريف الاقل ثراء وسياستهمquot;، اضافة الى عدد آخر من البحوث حول العالم العربي. والحقيقة فقد اتيحت لبطاطو فرص لم تتح لباحث آخر للحصول على معلومات ووثائق واحصائيات من السجلات السرية لمديرية الامن العامة العراقية وتقارير من الاستخبارات البريطانية ومقابلات ومنشورات حزبية ومذكرات شخصية وكذلك مساعدات من عدد من مراكز البحوث العلمية في الولايات المتحدة الامريكية وبعض الشخصيات العراقية. وتوفى في الولايات المتحدة الامريكية عام 2000.
ان موسوعة الراحل حنا بطاطو quot; العراقquot; في اجزائه الثلاثة يعتبر من أهم الكتب المرجعية في تاريخ العراق الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. وهو موسوعة سوسيولوجية شاملة عن المجتمع والدولة والسلطة والطبقات الاجتماعية في العراق.
تناول في الجزء الأول منه وضع ملاك الاراضي ورجال المال والتجارة في عراق ما قبل الجمهورية، وكذلك جذور البنية الاجتماعية والاقتصادية، في محاولة لاستشراف الملامح السوسيولوجية التي تميز الواقع المجتمعي من خلال دراسة وفهم وتحليل العلاقات التاريخية، اضافة الى دراسة وضع ملاك الاراضي ورجال المال والتجار في العهد الملكي (1921-1957) مع التركيز على الشرائح الاغنى او الاكثر نفوذا في هذه الطبقات، كما يلقي الكتاب الضوء على سلطتهم وطرق تفكيرهم وسلوكهم السياسي وموقعهم الاجتماعي وجذور منزلتهم او ثرواتهم، بهدف اكتشاف ما اذا كانت المعالجة الطبقية ستفتح منفذا لرؤية علاقات تاريخية او ملامح اجتماعية ذات قيمة اذا ما جرى تطبيقها على مجتمع عربي.
وتناول في الجزء الثاني منه تاريخ الشيوعيين في العراق على نطاق واسع وتأثيرهم على المستوى الجماهيري، متتبعا أصول الحركة الشيوعية وافكارها والعواطف التي تسيرها، وتقويم تأثيرها على المجتمع والدولة.
اما الجزء الثالث فتناول فيه الشيوعيين والبعثيين والضباط الاحرار، وهي الحركات التي شكلت بشرائحها الاساسية التعبير الاول عن الطبقات الوسطى في العراق، ملقيا الضوء على اصول هذه الحركات وجذور افكارها والعواطف التي تسيرها وتتبع حركتها في حالات مدها وجزرها، وبالتالي تقويم تأثيرها على العراق دولة ومجتمعا وتاريخا.
وقد استخدم بطاطو في بحثه العلمي منهجية اجتماعية ملائمة لدراسة المجتمع العربي،بصورة عامة، والمجتمع العراقي بصورة خاصة، الذي له خصوصيتة، واخضعه لمنهج بحث جدلي مركب من ماركسية محدثة ومنهج فهم فيبري، نسبة الى عالم الاجتماع الالماني ماكس فيبر، وتحليل بنيوي، وهو المنهج الذي ساد في بداية السبعينات في معاهدعلم الاجتماع والانثربولوجيا في الجامعات الغربية، محاولا تفسير الواقع الاجتماعي بعين نقدية فاحصة ومن دون التسليم بمنهج آحادي الجانب، لصعوبة تطبيقه على دراسة الطبقات الاجتماعية في دول ما زالت تسير في طريق النمو، وما زالت الطبقات الاجتماعية فيها غير مكتملة بل وهشة ومتغيرة , وما زالت في دور جنيني لانها نتاج بيئتها وتاريخها وتصوراتها عن نفسها. ومن الصعوبات المنهجية التي واجهته هي ان الطبقات التي درسها كانت تتألف من عناصر مختلفة ليس من السهل التمييز بين عناصرها وافرادها واختلافها اثنيا ودينيا وطائفيا، وكذلك في ثروتها ودرجة نفوذها وعلاقاتها بالدولة والسلطة، اضافة الى انها لا تشعر او تتصرف كوحدة واحدة في كل مرحلة من مراحل وجودها التاريخي، ولانها غير واعية لذاتها دوما.
ويعود التعقيد والتباين في ذلك الى ان الملكية ليست الاساس المسيطر على التراتب الاجتماعي. واذا كانت هناك طبقات في بعض المناطق الحضرية فهي في شكل بدائي وفي بنى متوازية مع المجتمعات الدينية، اضافة الى كونها ذات طابع اقتصادي بحت وليس سياسيا، وتقوم على روابط محلية وليس على مستوى البلد برمته. ففي بغداد مثلا هناك مبادئ للتراتب الاجتماعي تقوم بعملها معا، فبالاضافة الى هرمية الثروة هناك هرمية دينية وعشائرية وطائفية، الى جانب هرمية السلطة والمكانة الاجتماعية.
واذا كان هناك تمايز ديني ndash; طبقي في جنوب العراق، فهناك تمايز طبقي عرقي في الشمال، واذا كانت الاكثرية من العرب تخضع لعادات وتقاليد اسلامية، فان أهل الريف يخضعون الى عادات وتقاليد وعصبيات عشائرية مصبوغة بصبغة اسلامية، ولهذا لم يشكل العراقيون آنذاك أمة تستقطب مشاعرهم وولاءاتهم، كما اشار الى ذلك الملك فيصل الاول في مذكرة قدمها الى الحكومة العراقية عام 1932.
وبسبب تباين العناصر المكونة للطبقات الاجتماعبة في العراق واختلاف اوضاعها وتمايزها، حاول بطاطو وضع مفهوم اجرائي للطبقة، حدد فيه خصائصها باعتبارها تكوينا اقتصاديا في اساسهquot;، على الرغم انه يشير في النهاية الى الموقع الاجتماعي للافراد والعائلات المكونين لها في مظاهرها المختلفة، مع انه ابقى المفهوم نفسه فضفاضا ومخالفا للمعنى الأولي. واشار الى ان مفهوم الطبقة يتطلب مسبقا وجود فكرة المساواة واللا مساواة، التي تعتمد اساسا على الملكية التي تشكل العنصر الاساسي لوضع الطبقة الاجتماعية، ولكنه اكد بانه لا يعني بالضرورة القبول بهذه المفاهيم المختلفة او بمضامينها الكامنة الا اذا كانت قابلة للتطبيق على هذه الحالة التي هي قيد الدراسة. كما اكد على ضرورة فهم الملكية في اطارها التاريخي وانها ذات اشكال متعددة وظواهر متباينة ومختلفة. وقد ساهمت عوامل عديدة في تشكيل او ظهور الطبقات في العراق، ومن اهمها التحول التدريجي نحو النظام الرأسمالي والتمركز الشديد في ملكية الارض في أيدي عدد قليل من الشيوخ والاغوات وتحولهم الى شبه اقطاعيين اثرياء ما سبب انهيار نظام الاكتفاء الذاتي وهجرة واسعة من الريف الى المدن وافقارا شديدا في الزراعة.
احدثت هذه التحولات البنيوية تغيرات مفاجئة داخل هذه الطبقات صعودا ونزولا ومنها تشكلت طبقة من ملاك الاراضي شبه الاقطاعيين، اضعفت بدورها الروابط والعلاقات العشائرية، كما توحدت مصالحها مع الارستقراطيين والضباط والشريفين للدفاع عن مصالحها المشتركة امام الجماعات الاقل تمييزا والاكثر وعيا.
وشكل ملاك الاراضي في البداية quot; طبقة بذاتهاquot;، ولكنهم تحولوا في الاربعينات والخمسينات الى طبقة لذاتها، واخذت تدعو لنفسها سياسيا، مقابل ظهور طبقة متوسطة اخذت تنمو وتنشط مع تزايد سكان المدن وارتفاع نفوس بغداد الى اربعة اضعاف بين (1922- 1957) وخصوصا بعد تحلل الولاءات العشائرية والمحلية والتدفق المستمر لواردات النفط والتحول الى اقتصاد السوق وانتشار التعليم والصحافة وطرق المواصلات التي ساعدت على ولادة قوة اجتماعية جديدة هي quot; الانتلجنسياquot; وتطور الروح الوطنية والقومية التي ارتبطت بالشعور الديني، اضافة الى ما كان للانتلجنسيا من قدرة على التعبير عن آرائها وافكارها واخذت تلعب دورا مهما في اثارة الوعي الاجتماعي والسياسي.
وقد خلص بطاطو الى ان الملكية عملت الكثير لتحضير العراقيين الا انها اعاقت في ذات الوقت، التحامهم في أمة واحدة. واذا فقدت الطبقات الاجتماعية القديمة مواقعها، فقد حلت مكانها الطبقة الوسطى، التي قادت في الاخير الى ثورة تموز 1958، التي لم تستكمل جميع شروطها، وهو ما يفسر أزمة المجتمع والدولة التي ما زالت تعيد انتاج أزمتها وتمزقها.
وعلى رغم الموضوعية التي التزم بها بطاطو، فقد اثر الجو العروبي الذي ساد آنذاك على بنية تفكيره ndash; بشكل او بآخر ndash; وخصوصا في تحجيمه لبعض القضايا والفئات والطوائف ودور بعض الشخصيات وهي هنًات قليلة لا تكون سوى نقاط صغيرة في هذه الموسوعة السوسيولوجية القيمة التي اغنت المكتبة العربية.