قامت مجموعة من المثقفين العراقيين بتنظيم حملة وطنية واسعة شعارها ،فصل الدين عن السياسة وجمعت حتى الان اكثر من ستة آلاف توقيع من المؤيدين لهذه الحملة الوطنية الواسعة. ومن اجل توضح سوء الفهم والتداخل والالتباس في هذه المفاهيم وجدت انه من الضروري طرحها للبحث والمناقشة وذلك لحداثتها وحساسيتها وعدم استيعابها من قبل البعض وكذلك ما يحيط بها من احكام مسبقة وتأويلات غير موضوعية حولها. واذا رجعنا الى أصول فكرة فصل الدين عن الدولة وخلفيتها التاريخية، نجد ان الأصل هو فصل الكنيسة عن الدولة. وهذا الفصل هو في الحقيقة وليد عصر النهضة والتنوير والحداثة في اوربا التي عرفت الفصل بين الزمني والروحي، أي بين الحياة الدنيوية والحياة الدينية، لان لكل منهما فضاءه الخاص به.
بعد تفكك وانهيار علاقات الانتاج الاقطاعية التي دعمت سلطة الكنيسة والصراع العنيف بين الدول القومية الجديدة والكنيسة تفجرت حركات الاصلاح الديني التي اطاحت بسلطة الكنيسة والكهانة مدعومة من قبل الدول القومية الجديدة. وكانت في مقدمة تلك الحركات الدينية الاصلاحية الحركة البرتستانتية بقيادة مارتن لوثر 1483-1546 التي تفجرت في وسط اوربا والحركة الطهرية التي قامت في بريطانيا والاراضي المنخفضة.
كانت الكنيسة الكاثوليكية دولة داخل دولة تحتكر المعنى الديني وتكفر كل من يخالفها مثلما تحتكر المعنى الاجتماعي والسياسي والثقافي، اضافة الى احتكارها المعنى الاخلاقي. كما فرضت الكنيسة سيطرتها وأبوتها على جميع الناس بسبب ما فرضته عليهم من ضرائب مالية عالية وواجبات كثيرة وما ادخلته الى الدين المسيحي الاصلي من بدع ومفاسد كصكوك الغفران وغيرها.
من ذلك التاريخ رفع الشعارالذي ورد في الانجيل المقدس : quot; اعطي ما لقيصر لقيصر واعطي ما لله لله quot;.
ان منظومة القيم التي دعى اليها مارتن لوثر غيرت مجرى التاريخ الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في اوربا وقامت الى جانب الايمان بالارادة الالهية، على السيطرة على الذات وانضباط النفس والتحكم بها، لان السلوك الديني والاخلاقي الرشيد ينبغي ان يلتزم بطهارة النفس التي بموجبها يمكن للانسان ان يقترب من الله. وهكذا افرز الصراع مع الكنيسة حركة تحرر وانعتاق من سلطتها وافكارها الكهنوتية، وتحقق ولأول مرة في التاريخ، فصل الدين عن الدولة او ما يطلق عليه في اوربا بمفهوم quot;العلمانيةquot;.
فما هي العلمانية؟
العلمانية، بفتح العين، مشتقة من كلمة العالم، بفتح العين ايضا. وهي مفهوم ليبرالي يشير الى فصل الدين عن الدولة والمجتمع المدني عن المجتمع السياسي، بمعنى ان لا تمارس الدولة أية سلطة دينية، وان لا تمارس الكنيسة والجامع والمعبد أية سلطة سياسية ايضا.
هذا التعريف مشتق ايضا من المقولة الشهيرة التي صاغها محمد عبده :quot; لا دين في السياسة ولا سياسة في الدينquot; وكذلك مقولة سعد زغلول الشهيرة ايضا : quot;الدين لله والوطن للجميعquot;.
ومن هنا يصبح لدينا نوعان من الدول، واحدة علمانية واخرى دينية. والدولة العلمانية الحديثة هي السائدة في العالم اليوم التي لا تتدخل في الشؤون الدينية ولا تسمح لرجال الدين بالتدخل في الشؤون السياسية ولا تطبق سوى القانون الوضعي.
الدولة الدينية هي التي تضع السلطة والقوة بيد الله، بمعنى الحاكمية لله وحده، وهي النواة الاساسية التي يقوم عليها المشروع الاسلاموي، أي الدولة الدينية التي تطبق الشريعة على الارض وليس القانون الوضعي الذي يضعة العقل البشري.
الدين لله والوطن للجميع
يعني فصل الدين عن الدولة أولا عدم اخضاع الفعاليات السياسية والاقتصادية لاحتكار أية سلطة دينية مستقلة عن المجتمع. ومعنى السلطة هنا هو احتكار فئة متميزة بذاتها تدعي امتلاك الحقيقة المطلقة بشؤون الدولة وفعالياتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وثانيا لا يعني فصل الدين عن الدولة، فصل الدين عن المجتمع، وانما عدم السماح لرجال الدين ووعاظه استغلال المباديء والقيم الدينية النبيلة لاشباع حاجاتهم ومصالحهم الخاصة وتوظيفها في المجال السياسي والاقتصادي وغيرهما، انطلاقا من حقيقة انسانية عامة وشاملة هي ان quot; الدين لله والوطن للجميعquot;.
فصل الدين عن الدولة يعني ان يكون التشريع نابع من استقلالية مجلس التشريع القائم على الدستور. والدستور هو تشريع وضعي ينظم دولة المواطنة، بمعنى ان الجميع متساوون امام القانون بصرف النظر عن الدين والمذهب واللون والجنس والأصل او العرق، فكل الناس متساوون امام القانون في الحقوق والواجبات.
والسؤال الذي يتبادر للذهن هو : هل يعني فصل الدين عن الدولة تنحية الدين عن الحياة الاجتماعية؟ بالطبع لا، لان الدين، تاريخيا واجتماعيا هو من أهم المكونات الهامة للقيم والشعائر والطقوس التي تنظم شؤون الحياة الاجتماعية والدينية. ان فصل الدين عن الدولة والسياسة يعني احترام الدين وقيمه الروحية وهو يعني ايضا حماية الدين والعقيدة من العابثين بهما وعدم السماح باستغلال الدين والشعائر والطقوس من اجل اشباع المصالح الخاصة، وبصورة خاصة من وعاظ السلاطين الذين يستغلون الدين من اجل تحقيق اهداف المستبدين والمتسلطين على رقاب الناس عن طريق رفع شعارات quot;دينيةquot; لاستغلال عواطف الجمهور. وبالتالي الحيلولة دون التحول الى دولة دينية او عنصرية او طائفية لا تعترف بالاديان الاخرى ولا تعطيها حقوقها كاملة. كما ان اقحام الدين في السياسة يهدف دوما الى تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية والى اقصاء الاخر عن الساحة.
الدين يعني قبل كل شيء علاقة روحية بين الانسان وربه دون أية وساطة من احد، فهو ليس نظاما سياسيا وانما هو نظام اجتماعي جاء لتنظيم حياة الانسان الروحية.
الدولة المدنية الحديثة
الدولة المدنية لا تعني ابدا منع المواطنين من ان يكونوا مؤمنين ومتدينين ويقيمون الشعائر والطقوس الدينية. فهي تعطي المواطنين الحرية الكاملة في العقيدة وممارسة الشعائر والطقوس الدينية.
والدولة المدنية هي دولة القانون والمجتمع المدني، هي الدولة الحديثة التي تقوم على اساس مفهوم المواطنة. ففي ظل دولة القانون والمجتمع المدني لا يكون هناك تمييز او اقصاء لاي فرد. لانها تقوم على احترام حقوق الانسان وعلى التعدد والتنوع والاختلاف، فلا تفرق بين المواطنين ولا تسمح لاية سلطة بالتدخل في شؤونهم.
الدولة الحديثة هي جهاز اداري وسياسي وقانوني ينظم الحياة داخل المجتمع ، أي ان دور الدولة ووظيفتها هما تنظيم سير الحياة في المجتمع، وعليها ان تكون محايدة وان لا تتبنى دينا او عقيدة معينة. وحتى تكون محايدة، خصوصا في دولة تتعدد فيها الاديان والثقافات، يجب عليها فصل الدين عن الدولة ، لانه اذا كان للدولة دين معين ، فسوف تلغي بالضرورة حقوق اصحاب الديانات الاخرى، الذين لا ينتمون الى هذا الدين او هذه العقيدة، بل ومن الممكن ان تضطهد اصحاب الديانات الاخرى او تهمشهم.
ولهذا يصبح فصل الدين عن الدولة خطوة هامة لكي تضمن الدولة حرية واحترام حقوق الانسان وكذلك احترام دياناتهم ومعتقداتهم وثقافاتهم.
التعليقات