ان التحولات البنيوية السريعة التي رافقت نهاية القرن الماضي والتطورات العلمية والتقنية المكثفة التي تسير بوتائر سريعة، وبخاصة وسائل الاتصال الالكترونية التي حولت العالم الى قرية الكترونية صغيرة، كان من نتائجها الاولية تطور نظام عالمي جديد شديد الخصوصية، من معالمه انهيار جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفيتي وقيام حرب الخليج، التي كانت تدشينا عمليا لآلياته الجديدة واخيرا انفجار ثورات الشباب في الشرق الأوسط حيث تدخل المجتمعات العربية مجتمع التواصل وتدشن عصرا جديدا وتترك ورائها اعباء الامس الثقيلة وتجبر الانظمة الفاسدة والدكتاتوريات على الهرب من غضب الشباب والاحتجاج السلمي ويعطي الشباب بالتالي معنى لوجوده. وهذا يعد بحد ذاته انتصارا للديمقراطية الوليدة في هذه المجتمعات التي لا تراجع عنها بعد اليوم.
ان قافلة البشرية تسير باتجاه واحد ويقودها اقتصاد معولم هو اساس التوحيد السياسي اللاحق. كما ان التطور في التنظيم الدولي المقبل سيقود، بشكل او آخر، الى عولمة الاقتصاد وعولمة الثقافة وتوحيدهما معا، كما حدث في اوربا في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، عندما قامت الدول القومية الكبرى، ولكن مع فارق كبير بين ما حدث في الماضي وما يحدث اليوم. فاذا كان التوحيد قد جرى في الماضي على اساس قومي، فان التوحيد يجري اليوم على اساس عالمي وسيقود في النهاية الى الغاء الحدود والمسافات بين الدول بحيث يتجاوز التوحيد السياسي الاقتصادي، وبمعنى آخر سيتجه العالم نحو quot;دولة عالميةquot; من سماتها حرية تنقل رؤوس الاموال ونقل المعلومات عبر وسائل الاتصال المتعددة وليس عبر الحكومات، كما لم تعد هناك رقابة كاملة من قبل الدولة، لان عصر العولمة هو ببساطة عصر اندماج وتوحد وتكامل وانفتاح وتواصل وانتشار افقي للمعرفة، لان ثمة ثورة معرفية، علمية- تقنية مكثفة تجتاح العالم اليوم، يرافقها تحول عميق في منحى السلطة في شكلها التقليدي الى آخر جديد، تعتمد فيه القوة والعمل والثروة على المعرفة، التي هي ليست المصدر الوحيد للسلطة فحسب، بل واهم مقوماتها.
تظهر المعرفة العلمية- التقنية المعاصرة بوضوح في تحكم وسائل الاتصال الالكترونية الجديدة التي تقوم على اساس امبيريقي، والتي تشكل الاساس النظري القويم للعلم المعاصر، مثلما تشكل لب العولمة، كما تتجلى في القدرة على توحيد انماط الحياة الحديثة وطرائق التفكير والسلوك واساليب العمل على مستويات الانتاج والتوزيع والاستهلاك، وبالتالي نمذجة السلوك الثقافي واساليب التذوق الفني وطرائق الترفيه والمودة والمتع المادية والفكرية.
هذه المعالم الثقافية بدأت تظهر، وبخاصة في المجتمعات الصناعية التواصلية المتقدمة، بعد ان اخذت تكنولوجيا الاتصال تهيمن على الفضاء المعرفي، وبخاصة المعلوماتي، وتؤثر بشكل مباشر او غير مباشر على بنية المجتمع وكذلك على العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية وكذلك على التراتب الاجتماعي.
ان مجتمع المستقبل الآخذ بالتشكل، سيكون مجتمعا افقيا لا مركزيا، من خصائصه تدفق المعلومات بكميات كبيرة وسريعة وتصبح عن طريق وسائل التواصل الالكترونية الجديدة كالانترنت والفيسبوك والتويتر وغيرها في متناول الجميع، وكذلك عن طريق الكتاب والجريدة والرياضة والالعاب، مثلما تنتشر طرائق الاكل واللباس والموسيقى والغناء وغيرها. ومثال على ذلك مكتبة الامزون (في الانترنت) التي تأسست عام 1995 لتوزيع الكتب والمجلات والدسكات واشرطة الفيديو وغيرها، وايصالها الى زبائنها بعد يومين فقط. وخلال سنوات قليلة اصبحت من اكبر دور الكتب في العالم وتضم اليوم عشرات الملايين من الكتب والمجلات والدسكات وغيرها.
ان هذه التغيرات والتحولات الجذرية في توصيل المعرفة بسرعة فائقة وجعلها في متناول الجميع، ستهدم كثيرا من العلاقات الاجتماعية التقليدية وما تبقى من الهرم الاجتماعي الطبقي والتراتب الاجتماعي العامودي في المجتمع، بحيث لم يعد هناك مجتمع طبقي، لان المجتمع الافقي الجديد في طريقه لخلق طبقة اجتماعية جديدة لا تقوم على اساس تقسيم رأس المال والعمل، وانما على اساس المهارات المعرفية العالية وبخاصة التكنولوجية، بعد ان اصبح رأس المال، وللمرة الاولى في تاريخ العالم، عنصرا غير حاسم في عملية الانتاج، ولم يعد هناك تقسيم تقليدي للعمل (عمل عضلي وعمل فكري) يلعب دورا مهما في المجتمع، لان المعرفة التقنية اصبحت اساس الانتاج وبذلك لم يعد لرأس المال والايدي العاملة ذلك الدور الرئيسي الذي كانت تحتله في الدولة القومية.
يطلق الفيلسوف وعالم الاجتماع الالماني يورغن هابرماس على quot;مجتمع ما بعد الحداثةquot; او quot;مجتمع ما بعد التصنيعquot; المعولم ب quot; المجتمع الافقي quot;، الذي يقود الى تحديث مستقل من خصائصه انفكاك العقلانية عن الحداثة وهيمنة الآداتية لصالح القوى الاجتماعية صاحبة السيطرة والنفوذ، والنزوع الى السيطرة على الانسان من جديد وامتدادها الى الكواكب الاخرى، وتكون المعرفة والثقافة فيه عامة ومشتركة تربط بين الافراد والجماعات بهاجس مشترك واحد، بغض النظر عن القومية والهوية الثقافية والمكانة الاجتماعية. غير ان اهم ما يميز هذا المجتمع هو عدم وجود يقين ثابت ولا تمييز بين الحقيقي والزائف.
ان تطور مثل هذا المجتمع يلغي المركزية الصارمة قليلا او كثيرا ويعطي للفرد دورا اكبر بحيث تاخذ الذات مكانها في مركز الفعل الاجتماعي. وبهذا الخصوص يقول ميشيل فوكو، بان اهمية السلطة المطلقة ستزاح من موقعها التاريخي القديم ليحل محلها دور الفرد وفاعليته في التاريخ، وهو ما يفتح آفاقا جديدة لمرحلة اكثر تحديثا، وستستتبعها مرحلة اعلى توزع فيها المركزية بين فئات اجتماعية عريضة، لا طبقية، حيث يتحول المجتمع الطبقي العامودي الى مجتمع افقي متعدد الهويات، وبهذا تزول بالتدريج ديكتاتورية المؤسسة الاقتصادية التي اصبحت عائقا امام تطور القدرات الذاتية للافراد خارج اطارها. كما سيتبعها تفكك البنية العسكرية، ويتم بذلك تفكيك الدولة المتعددة القوميات والآيديولوجيات.
لقد اخذت قسمات القرن الواحد والعشرين بالتغير، ومن أهم المؤشرات على ذلك هو النمو السكاني السريع الذي شكل انفجارا كبيرا في العالم. فاضافة الى ظاهرة الجمهور التي رافقت توسع المدن، ظهرت الصورة التي ينصهر فيها الافراد الذين لا يمكن عدهم وحصرهم ولا تحديد هويتهم وذلك بحلول الجماعات المسيرة وادخال الوعي الرمزي لاعداد كبيرة من البشر في شبكات الاتصال التي ما فتأت بالتوسع المطرد من جهة، وتحولها الى quot;حشود متمركزة والى جمهور وسائل الاعلام المبعثرquot;، الى جانب سيول السيارات وازدحام الشوارع وتشابك الافراد في شبكات تواصل الكترونية عديدة.
اما التبدل البنيوي الهام فيحدث في نظام العمل الجديد الذي تحركه وسائل الانتاج التي توفر مزيدا من العمل والخدمات، اي تصعيد في انتاجية العمل وكذلك تحديث في الاقتصاد العالمي، الذي لم يغير بنية العمل فحسب، وانما في تزايد سرعته حيث يتم تحديث الاقتصاد باطراد وفي جميع البلدان منذ الثورة الصناعية وحتى الآن. وتتسم المجتمعات ما بعد الصناعية اليوم بقطاع جديد في مجالات العمل والخدمات التي تعتمد على العلم والتقنية المتقدمة واحداث قفزات نوعية في مجال التصنيع على حساب القطاع الزراعي وازدياد النمو الحضري وما يرافقه من تخريب لحياة المدن.
وبسبب تطور تكنولوجيا الطاقة النووية والتصنيع العسكري والطبي وتطور وسائل المواصلات والاتصال الالكترونية، التي غيرت من الانجازات التقنية كالسيطرة على الطاقة الذرية وغزو الفضاء وفك رموز الجينيوم البشري واقتحام عالم الطبيعة وفك الغازها وغيرها، التي تتطلب تعاملا خاصا مع الآلات تعاملا لا يزعزع الثقة ويزيد من المخاطر المتنامية حولها، وبخاصة التواصل الرقمي (الديجيتال) والانترنت والموبايل والفيسبوك والتويتر وغيرها، الذي يفوق كل وسائل الاعلام الاخرى مدى وسرعة وقدرة وتنوعا، وكذلك وسائل المواصلات الحديثة التي تربط بين الارض وبين الكواكب الاخرى، فان نتائجها الاجتماعية والثقافية والسياسية والنفسية لا يمكن تقدير حجمها وقياسها بعد.
ان مجتمع العمل الذي تحول الى مجتمع التواصل يواجه اليوم تحديات ما بعد الدولة القومية. فالعولمة التي تتمثل في انتشار المواصلات وحشود السياح وحضارة الجماهير التي تتقاطع مع مخاطر التقنيات وتجارة السلاح وتلوث البيئة في اشكاله المختلفة، ترمي بثقلها اليوم على قوة التماسك في المجتمعات القومية وفي الاسواق المعولمة والمجتمعات الاستهلاكية والتواصل الجماهيري والسياسة.
كما يرتبط مجتمع التواصل بالمواطنة والهوية والقومية، كما تتجلى بالاتحادالأوربي وبالوحدة الالمانية وتحرر دول شرق ووسط اوربا عن الوصاية السوفيتية والنزاعات القومية المتفجرة في اوربا الشرقية التي انتجت النقاش المستمر حول الهجرة واللجوء والحق الديموقراطي في تقرير المصير وفي الحفاظ على الثقافة والتعايش السلمي في اطار دولة القانون التي تحفظ حقوق الانسان والمواطنة التي لا تنغلق على نفسها. فهي وحدها تستطيع ان تهيء الطريق لوضع المواطن العالمي الذي يتخذ شكلا من التواصلات السياسية العالمية. فمواطنة الدولة ومواطنة العالم، كما يقول يورغن هابرماس، تشكلان معا استمرارية بدأت ترسم، ولو في خطوط عريضة، معالم المستقبل. ولهذا تتطلب التعددية الحضارية مرآة تعكس ما تحتاج اليه الأقليات القومية لحماية نفسها من حكوماتها ذاتها. ولا يمكن تحقيق ذلك الا في اطار دولة القانون الشرعية التي تندمج فيها الاقليات في حضارة الاكثرية، كما ان سياسة الاعتراف بالآخر واحترام حقوق الانسان كفيلة بتأمين التعايش والوفاق المتكافئ بين مختلف الشعوب والثقافات..
ان المجتمع التواصلي يلتقي مع الديمقراطية بوصفها التشكيل الحر للارادة الشعبية التي تترجم عبر وسائل الاتصال الحديثة المختلفة التي تقود الى الحوار من دون اكراه وتسلط وعبر التفاهم المستمر بين الذوات ومن دون اللجوء الى العنف، وهو ما يعمل على خلق فضاء عمومي هو مفتاح الديمقراطية الذي يكون دائرة توسط بين المجتمع المدني والدولة ويجمع الافراد في رأي عام مفتوح يكون وسيلة للضغط على الدولة بفضل العلم والتقنية الرشيدة وعبر وسائل التواصل المختلفة والحوار والاعتراض والتفاهم التي تعكس حقيقة الديمقراطية التي تعبر عن الاراء والمصالح والايديولوجيات المختلفة.
التعليقات