ان الخطوة الحمقاء التي اقدم عليها النظام العراقي باجتياحه الكويت عام 1991 شكلت حدثا مأساويا آخرا اشد خطرة وتدميرا، خلف وراءه كوارث لا تعد ولا تحصى، ليس على العراق فحسب بل وعلى المنطقة وشعوبها وبخاصة على الشعب العراقي الذي دفع ثمنا باهضا وما زال يدفع من دماءه وعرقه ووطنه وخيراته ومستقبله، وما زال يأن من وطأءة الحروب والحصار والخراب ثم الاحتلال، وسوف يبقى يعاني من ذلك ربما لسنيين طويلة.!
وان القاء نظرة سريعة على الوضع الاجتماعي والاقتصادي المزري في العراق تبين لنا بوضوح الاثار الاجتماعية والنفسية الخطيرة التي سببتها الحربين المدمرتين التي تركت ورائها اكثر من نصف مليون عراقي بين قتيل وشهيد ومقعد واسير. كما جرت في ظل موجات الرعب والقمع والحصار الخارجي والداخلي عملية تفقير للشعب العراقي الى حد المجاعة، حيث شهد العراق وضعا اقتصاديا متدهورا، واجتماعيا ونفسيا بائسا، وخاصة في الجنوب والوسط، لا تكفي كلمة quot;أزمةquot; للتعبيرعن الخراب الذي حل بالبلاد وعمق المأساة المريرة التي يعيشها الشعب العراقي، وحيث اخذ البلد يتراجع في أهم المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية الى ما قبل مئة عام.
فبالاضافة الى تدمير جميع البنى الفوقية والتحتية الاساسية حدث تغير اجتماعي عميق داخل الهرم الاجتماعي والاقتصادي والثقافي في العراق كان له تأثي كبير على الشخصية العراقية وبخاصة تحلل الطبقات الاجتماعية وضمور الطبقة الوسطى بحيث اصبح هناك ثراء فاحش وفقر مدقع . كل ذلك سبب تغيرا كبيرا في المكانات الاجتماعية صعودا ونزولا، حيث أدى انخفاض مستوى المعيشة والتضخم النقدي وتدني الرواتب والاجور والبطالة ونقص المواد الغذائية والادوية والخدمات وغيرها الى انخفاض مكانة اصحاب المهن العليا في سلم الهرم الاجتماعي والاقتصادي وكذلك النظرة الى اصحاب المهن والكفاءات كالطبيب والاستاذ والكاتب والفنان وارتفاع مكانات اصحاب المهن الدنيا كالمقاول والصائغ والميكانيكي وغيرهم، الذين اصبحت مدخولاتهم اعلى مما يحصل عليه استاذ الجامعة والمهندس. كما تدهور مستوى التربية والتعليم ولم يعد للمعرفة والثقافة وطلب العلم من أهمية، وذلك بسبب الاغتراب والاحباط النفسي والشعور بالامعنى، الذي جعل جيل الحصار جيلا محروما من كل شيء ومقطوعا عن العالم المتحضر فلا يعرف عن ثورة المعلومات الالكترونية شيئا ولا عن الانترنت. ولذلك يمكننا القول بان السقوط الفعلي لنظام صدام حسين لم يحدث على أيدي قوات الاحتلال عام 2003، وأنما في الانكسار المريع الذي صاحب اخراج الجيش العراقي بعد احتلال الكويت عام 1990 وبداية العد التنازلي لانهيار المؤسسة العسكرية وبداية تفكك الدولة الشمولية ومؤسساتها وعجزها عن القيام بالمهام المسؤلة عنها وكذلك شعور المواطنين بان الدولة لم تعد تستطيع تحقيق ما عليها من واجبات والتزامات تجاه الفرد والمجتمع.

تدمير البنية التحتية

يرى الخبراء الاقتصاديون، بأن البنية التحتية للاقتصاد العراقي قد دمرت بما قيمته 232 مليار دولار، اي ما يعادل موارد عقدين من عائدات النفط، حيث أهدر النظام السابق على الحروب ما يقارب 1265 مليار دولار، كما وصل اجمالي مديونية العراق الي 120 مليار دولار. ومع فداحة هذه الخسارة، غير ان آثارها الوخيمة هي اعظم بكثير مما يتوقعه المرء، لما ينتج عنها من تعطيل للقوى المنتجة والنكوص المزري في نظامي العمل والانتاج الى مستويات متدنية.
ان الخسارة الحقيقية التي طالت البنية التحتية في العراق تظهر بوضوح في تدمير محطات الكهرباء والمصافي والمجمعات البتروكيماوية ووسائل الاتصال ومراكزها، وكذلك في شبكات الطرق والجسور والمياه والسكك الحديدية واغلب المعامل والمصانع والورش الحكومية، الى جانب تدمير كامل لاغلب المؤسسات العسكرية والتصنيع العسكري. ومن البديهي القول ان العراق سوف يحتاج الى مئات المليارات من الدولارات لاعادة انتاج وتصليح البنية التحتية التي دمرت تدميرا كاملا، اضافة الى صعوبة تعويض سنوات التوقف التي طالت المؤسسات الصناعية والاقتصادية وكذلك التلف والعطالة بسبب الحربين المدمرتين مع ايران والكويت وكذلك الحصار الاقتصادي وما سببه من اضرار في حاضر العراق ومستقبله، الى جانب تبعية الاقتصاد العراقي الى السوق الدولية، وما سببه ذلك من خسائر فادحة وتخلف وافقار.

لقد كان الحصار الشامل الذي فرضته الامم المتحدة على العراق(2.8.1990) وهيأت له سياسة صدام الرعناء مبررات قيامه ، ترك شعبا يقتله القمع والجوع والحرمان، كانت من نتائجه كسر هيبة الدولة وتشويه شخصية الفرد العراقي والتهيئة لاحتلاله واذلاله، وذلك بسبب تدمير البنيات التحتية والفوقية التي طالت جميع مرافق الحياة وبخاصة البنية الاجتماعية والنفسية والثقافية التي سببت ضعفا وشللا وعجزا واستلابا وتطويعا وتطبيعا للانسان العراقي الذي اصبح غريبا عن ذاته ومجتمعه الذي يعيش فيه.
وقد تبع تهديم البنى التحتية توقف نبض الانتاج الفكري والابداع الفني بتوقف وسائل الطبع والنشر وتوقف صدور الجرائد والمجلات والدوريات العلمية ومحاصرة المثقف والثقافة من كل مكان ومنع حق التفكير والكتابة والابداع واخذ العقل العراقي ينزاح عن مواقعه بعد ان انهك روحه الجوع والقهر والقمع .وقد اضطر كثير من الاساتذة والادباء والفنانين والمدرسين الى بيع مكتباتهم بعد ان باعوا اثاث بيوتهم والاشتغال سائقي تكسي او بياعيين على ارصفة الشوارع.
ومن بين الظواهر الاجتماعية الغريبة التي اصابت المجتمع والتي لها خطورة فائقة على مستقبل العراق هي الرشوة، التي تعبر عن احدى علامات التخلف والتفكك والركود، لانها آفة تنخر جسم المجتمع من الداخل فيأخذ بالتآكل التدريجي. وبالرغم من استخدام بعض طرق الرشوة في المعاملات المالية وغيرها ، الا انها كانت قليلة ومحدودة وتثير النقد والمسائلة، لكنها تطورت وامتدت الى قطاعات اقتصادية واجتماعية عديدة واتخذت اشكالا واساليب مباشرة تارة وغير مباشرة تارة اخرى، كالاكراميات والهدايا والابتزاز والتهديد المباشر لدفع الرشوة واللف والدوران لتعطيل سير المعاملات وغيرها من اساليب الغش والتحايل. واذا كان تدني الاوضاع الاقتصادية يضطر البعض من ذوي النفوس الضعيفة لاستغلال هذه الظاهرة المرضية، فان ذلك يثير تساؤلات اكثر خطورة ترتبط بأخلاقية الناس وظميرهم ووطنيتهم ووعيهم بخطورة ما يقومون به.!
لقد عمق التضخم النقدي الأزمة الاقتصادية الخانقة وكبح سيرورة النشاط الاقتصادي وسبب اضرارا اجتماعية واقتصادية وسياسية عميقة ألقت بظلالها بقسوة شديدة على حياة المواطنين عامة والعائلة العراقية خاصة مما ترك عددا كبيرا من النساء ينخرطن في اعمال هامشية كالخدمات والدلالية والسمسرة ويعرضهن للعنف والانحلال الخلقي زالاستلاب الاجتماعي.
ان مآسي العائلة والأمومة والطفولة ازدادت فقرا وسوءا وتدهورا ووصل الوضع الى حد قريب من المجاعة وسوء التغذية وانعدام العلاج والدواء.
ومن اشد اخطار الحروب والحصار هو تلوث البيئة نتيجة لاستخدام الاسلحة والصواريخ والمواد الكيماوية السامة حيث تلوثت التربة والهواء والمياه والاشجار اضافة الى تجفيف الاهوار الذي سبب خللا في التوازن الطبيعي. وقد صاحب ذلك ارتفاع مخيف في نسبة انتشار الامراض والأوبئة الخبيثة كالسرطانات والتشوهات الخلقية والاختلالات العقلية وارتفاع نسبة الامراض النفسية والعصبية.
كما ان غياب ابسط اشكال الحرية والديمقراطية سبب مصدرا لانتهاكات حقوق الانسان وانتهاج سياسة ايديولوجية من اهدافها اثارة النعرات الأثنية والدينية والقبلية والطائفية. وقد اكد دير شتويل، مبعوث الأمم المتحدة عام 1996 على تدهور متواصل لأوضاع حقوق الانسان في العراق. فاعمال القتل والتنكيل والاعدامات اضافة الى عقوبة بتر الاطراف وقلع اللسان واساليب التعذيب الوحشي والمقابر الجماعية. كل ذلك سبب انحرافا في منظومة القيم والمعايير الاجتماعية والاخلاقية. والمشكلة هي ان تدمير شخصيته الانسان وتشويهها هي اعمق اثرا من تهديم البنية التحتية والفوقية وتفكيك شبكة العلاقات الاجتماعية، لانه من الممكن اعادة انتاج البنية التحتية وكذلك جزء من العلاقات الاجتماعية والاقتصادية التي تفككت بفعل الحرب والقمع والتفقير والاحتلال بوقت قصير نسبيا، غير ان اعادة بناء الانسان المنكسر اجتماعيا ونفسيا واخلاقيا قد لا تحصل الا بعد عقود طويلة.
والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم: هل من الممكن اعادة انتاج ما دمرته الحرب والحصار بسهولة ويسر وبفترة زمنية قصيرة؟! واذا كان بالامكان اعادة منظومة القيم والمعايير الاجتماعية والاخلاقية وتقويم السلوكات التي تفككت وتحللت وتخريب واعادة انتاجها بشكل جديد يتلائم مع ما استجد من تغيرات وتحولات، وبخاصة بعد نكوص المجتمع الى قيم البداوة الرديئة وترسيخ قيم الغزو والغلبة والشطارة، وبعد ان فقد المجتمع فضائل القيم العربية الاسلامية كالمروءة والتسامح والصدق والإباء وقيم الحداثة والعصرنة النسبية التي اخذت تتطور بعد الحرب العالمية الثانية، كالحرية والديمقراطية واحترام حقوق الانسان؟
اقول اذا كان كسر إناء زجاجي اسهل بكثير من اعادة تركيبه ولحمه واصلاح الآخاديد غير المرئية فيه، فهل من الممكن كسر حاجز الخوف والانكسار واعادة الثقة بالنفس وبالآخرين، واعادة مبدأ التسامح بين الناس ؟ وهل من الممكن لئم جروح مدماة بالحقد والثأر، ولئم جرح ثكلى وزوجة مرملة وطفلة مفزوعة بالرعب، وقلوب كسيرة بالالم واليأس؟! وعلينا ان لاننسى انتهاك الاعراض وعمليات الاخصاء والتدخل غير المباشر في المسائل العائلية والشخصية.!
في الواقع ان الحرب وما انتجته من حصار اقتصادي هي اقسى قدر وقع على الانسان في العراق، انها اقسى من الموت وافضع من القتل، ولا يمكن تصورها وتصويرها الا من قبل من عاشها وذاق طعم مرارتها ووقع ضحية لها. فالحرب ليست مغامرة، وانما هي تراجيديا كونية اسقطت موضوعة الحب والتعاون والامل وخلقت حالة من اليأس والعجز والنكوص، وها نحن نجني اليوم بعض اثارها المدمرة.