كان المجتمع العراقي حتى نهاية السبعينات مجتمعا متماسكا، رغم الهزات العنيفة التي رافقت ثورة 14 تموز 1958 وانقلاب شباط 1963 والاحداث الدموية التي رافقته، حيث اتسمت الحياة بصورة عامة بالبساطة في نمط الحياة وفي مستوى المعيشة وقناعة اغلبية افراد الشعب العراقي بذلك ما دام هناك تكامل وتكافل اجتماعي واحترام متبادل للقيم والمعايير والقوانين العرفية والوضعية، التي كونت وسائل ضبط اجتماعية تقوم بتقييم وتقويم السلوكات الاجتماعية المنحرفة وتساعد في ذات الوقت على معرفة واحترام القيم المركزية المشتركة التي تحدد ما هو حلال وما هو حرام، وما هو صحيح وما هو خاطئ الى حد بعيد، وكذلك ما هو مرغوب فيه او منبوذ. وهي قيم ومعايير متبادلة وتقوم اساسا على الثقة المتبادلة مع الآخر. وعلى سبيل المثال كانت ابواب البيوت مفتوحة لا تقفل احينا حتى في الليل. وكان الناس يسهرون حتى ساعات متاخرة من الليل ويتبادلون الزيارات ويتمتعون بوسائل لهو وترويح مختلفة دون خوف او وجل، وكانت المعاملات التجارية والتبادلية تعقد على اساس الثقة والاحترام المتبادل، وغالبا ما تتم عن طريق المكالمات التلفونية وتدفع نقدا اوعلى شكل كمبيالات وعن طريق مباشر اوبواسطة وكالات تجارية او سماسرة وغير ذلك. واتذكر جيدا بان موظفي مصرف الرافدين مثلا كانوا لا يعدون الرزم النقدية التي يودعها التجارالمعرفون او وكلائهم بسبب معرفتهم والثقة العالية المتبادلة بينهم، وكذلك يفعلون حين كانوا يصرفون شيكا او يستلمون نقودا.
وكانت الثقة المتبادلة بين الفئات الاجتماعية تعزز القيم الاجتماعية الايجابية وتقوي في ذات الوقت الثقة بين افراد المجتمع، مع اكتساب قيم اجتماعية جديدة عن طريق دخول عناصر التحديث بشكل ينسجم مع التطور الاجتماعي، الذي هو سنة الحياة الاجتماعية. وكانت عناصر الثقافة السائدة، المادية والمعنوية، مشتركة ومتبادلة تقريبا وتشكل النمط العام للسلوك الاجتماعي والثقافي للافراد مع بعض الاختلافات الجزئية، تبعا لمستوى الثقافة والدين والطائفة والمستوى الطبقي والمكانة الاجتماعية وكذلك لوجود ثقافات فرعية، وبخاصة بين الريف والمدينة بشكل عام. وكانت المدارس والمعاهد والجامعات الرسمية والاهلية هي مؤسسات تربوية وتعليمية وتثقيفية توجه افراد المجتمع وتعلمهم وتدربهم لخلق جيل جديد قادر على مواكبة المستجدات في التطور الاجتماعي والثقافي والعلمي والتقني.
لقد كان المجتمع العراقي مصدر القيم الاساسية كالتماسك العائلي والالتزام بالاعراف الاجتماعية واحترام القانون والالتزام الخلقي به، الى جانب التعقل في السلوك والتعفف عن ممارسة الرذائل وتحمل المشاق والحشمة والالتزام بالقيم والمعايير الاجتماعية واحترام المؤسسات القانونية والاجتماعية والدينية وغيرها التي ساعدت على التكافل والتماسك الاجتماعي والعائلي والاخلاقي.
ان تلك الثقة المتبادلة اخذت بالضعف والتفكك التدريجي منذ صعود حزب البعث الى السلطة وقيام الحرب العراقية الايرانية على وجه الخصوص وعسكرة المجتمع والاقتصاد والثقافة ثم قيام حرب الخليج الثانية والحصار الاقتصادي الجائر الذي اعقبها، التي أشرت الى ولادة مرحلة جديدة شديدة التعقيد والخصوصية وكذلك ولادة جيل جديد اطلقنا عليه quot;جيل الضياعquot;، الذي ولد ونشأ وترعرع خلال سنوات الحرب والحصار .
لقد كان لانفجار اسعار النفط خلال عقد السبعينات وتزايد واردات النفط أثر كبير في دعم الدولة حيث ارتفعت واردات النفط من 1,5 مليون عام 1941 الى 79,8 مليون عام 1982. ما ساعد على استقلال الدولة اقتصاديا عن المجتمع ونشوء الدولة الريعية وتطور اجهزة الدولة البيروقراطية وتحولها الى اجهزة أمن ومراقبة وقمع أولا، وتطور المشاريع التنوية لبناء البنية التحتية ثانيا، والتحول نحو عسكرة الحزب والدولة والمجتمع ثالثا، ساعدت على تحقيق الطموحات نحو التوسع والحرب، حيث ولَدت كل حرب حربا أخرى .
كل ذلك كون تربة خصبة لولادة جيل مختلف تماما ولد ونشأ وتربى وتعلم في احضان ثقافة العنف والحرب والحصار والمآسي الدامية، التي جعلته يختلف تماما عن الاجيال التي سبقته في طرائق التفكير والعمل والسلوك وبخاصة من ناحية القيم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تغيرت تغيرا كبيرا وبشكل غير طبيعي، مثلما تغيرت شخصية الفرد العراقي وهويته الوطنية حيث اصبح الفرد منقسما على ذاته بعد انكساره واغترابه عن المجتمع الذي يعيش فيه، جراء ما عاشه من كوارث واهوال وخراب.
لقد افرزت ايديولوجية النظام السابق استبدادا شموليا ونظاما عسكريا دكتاتوريا كانت نتيجته الطبيعية دخول حروب كارثية، وما تبعها من حصاراقتصادي وقمع وتدمير، ولدت عند هذا الجيل آليات دفاع نفسي جديدة ولكنها معكوسة غيرت من القيم والمعايير القديمة وولدت بدورها جيلا من quot;الصداميين الصغارquot; الذين تأثروا بايديولوجية النظام الشمولي السابق والسياسة السايكولوجية التي اتبعها في اشغال المواطنين المأزومين بالموت والقمع والدمار والركض وراء اشباع الحاجات الاساسية من اجل البقاء على الحياة، وابعاده عن الحاجات الاجتماعية والتربوية والثقافية. وقد استخدم النظام التربية والتعليم ووسائل الاتصال وعسكرة المجتمع بذكاء، كعمليات تغبية وغسل دماغ، بحيث لم يعد المرء يحمل سوى ذاكرة الحرب والدمار والقتل العبثي ولا يكاد يمتلك سوى ذاكرة الموت والسلاح. هذا الجيل هو الذي يتعرض اليوم للقتل والدمار، واذا لم يكن ذلك الجيل فانه الجيل الذي أولده. انه جيل المسخ والخراب والاغتراب، الجيل الذي يمارس العنف والسلب والرشوة والابتزاز والفساد. انه جيل الحرب والحصار، الذي يحمل ذاكرة مملوءة بصور الخوف والرعب والشك وعدم الثقة بالآخر. انه الجيل الذي يواجه الموت كل يوم، وينتج بدوره العنف والعنف المضاد ويثيره، انه جيل دويلات المناطق والقبائل و الطوائف والمحلات وعصبياتها وصراعاتها. انه الجيل الذي لا يعرف فيه العدو من الصديق، انه الجيل الذي ساعدت قوات الاحتلال على اثارة مكبوتاته وعدوانيته بعد سقوط النظام السابق. انه الجيل الذي ساعد على خلق الفوضى والعنف ونهب الذاكرة، وهو نفسه الذي منحنا شيئا من الحرية وسلبها في آن.
انه الجيل الذي عاش التقلبات والصراعات السياسية والحروب والمآسي والدمار واعلان الحصار الاقتصادي الجائرعلى العراق بقرار من مجلس الامن رقم 661 عام 1990، الذي جعل العراق ناقص السيادة والصلاحيات.
ومن الممكن تصور الاضرار الجسيمة التي لحقت بالبنيات التحتية خلال ثلاثة واربعين يوما من القصف الجوي المكثف التي لحقت ذلك. فقد ألقت قوات التحالف حوالي 130 ألف طن من المتفجرات التي دمرت منشأت عسكرية ومحطات توليد الكهرباء ومصافي النفط والمصانع والمخازن الحيوية وخطوط السكك الحديدية والطرق والجسور والمطارات ومصانع البتروكيمياوية وشبكة المواصلات والتليفزيون وغيرها. وبهذا دمرت اغلب مقومات الحياة الحديثة واصبح العراق يعاني من عجز وشلل كامل في جميع مرافق الحياة، بعد الخسائر الكبيرة في الناتج المحلي وتوقف صادرات النفط والتجارة الخارجية، اضافة الى الخسائر الفادحة في البنية الصناعية التي طالت المنظومة الكهربائية والمنشأت النفطية والمؤسسات الصناعية والتجارية وغيرها. وقد بلغت الخسائر اكثر من ثلثمائة مليار دولار. كما تفككت البنيات الاجتماعية والنفسية والاخلاقية وتحللت منظومة القيم والمعايير الاجتماعية والدينية والاخلاقية وأدت الى تدمير انسانية الانسان واهانته واذلاله وتشويه شخصيته وجعلت هذا الجيل كبش الفداء.
لقد قصم الحصار الجائر ظهر العراقيين واهان كرامتهم وزاد في التناقضات والخلافات والاختلافات بحيث اختفت القيم والمعاييرالأصيلة وثوابت الشخصية التي كان يتمتع بها العراقي خلال عقود طويلة، مثلما اختفت معالم نهضته الاجتماعية والاقتصادية والادبية والعلمية والفنية التي تطورت خلال الاربعينيات والخمسينيات التي ارست معالم مجتمع عراقي حديث. كما اختفى الانسجام والتجانس والتسامح والتكامل الاجتماعي بين الاثنيات والطوائف والفئات الاجتماعية الاخرى، وتفكك النسيج الاجتماعي والاخلاقي وفقدت العائلة وحدتها وتماسكها وقيمها الاجتماعية.
ان هذه التركة الثقيلة التي خلفتها الدولة الاستبدادية الشمولية والحروب والحصار مهدت الطريق لسقوط النظام السابق على أيدي قوات الاحتلال التي قامت بدورها بتدمير ما بقي من البنى التحتية والفوقية. وسوف نتكلم في مقال قادم عن جيل ما بعد السقوط.