في مساء يوم 22 نوفمبر الجاري، خرج علينا المتحدّث باسم رئاسة الجمهوريّة المصريّة ليذيع في النّاس قرارات اتخذها رئيس الجمهوريّة لتوّه. وكانت شبيهة بالبيان رقم 1 فيما اعتدنا عليه من انقلابات عربيّة في عقد السّتّينات. وكان أخطر ما في هذه القرارات التّعديل الدّستوريّ الذي يمنع الطّعن في قرارات الرّئيس الصادرة منذ تولّيه السّلطة وحتّى انتخاب البرلمان المقبل، أمام أيّ جهة قضائيّة، بما في ذلك المحكمة الدّستوريّة واعتبار الطّعون المعروضة على المحاكم الآن باطلة ومنعدمة وكأنّها لم تكن. وفور الإعلان عن هذه القرارات، اعتبرها مؤيّدو الرّئيس استكمالا للثّورة واعتبرها معارضوه انقلابا على الثّورة وتأسيسا لدكتاتوريّة جدّا. فما هي حقيقة ما حصل؟
بادئ ذي بدء، يجب أن نستوضح ما الذي جرى في مصر منذ سنتين تقريبا : هل هو ثورة؟ وإذا اعتبرنا ما جرى ثورة، فما هي طبيعتها؟ هل هي ثورة جذريّة هدفها إسقاط كافّة مؤسّسات الدّولة، وبناء دولة جديدة واجتثاث كلّ ما ينتمي إلى النّظام القديم؟ نجيب بكلّ وضوح أنّ ذلك لم يحصل. أمّا إذا اعتبرنا أنّها ثورة هدفت إلى إسقاط النّظام الدّكتاتوريّ، مع الاحتفاظ بالدّولة ومؤسّساتها وإصلاحها أي أنّها ثورة أسقطت النّظام وأبقت على الدّولة، أي ثورة داخل الدّولة وليست ضدّ الدّولة، فذلك ما حصل بالفعل. وهذا يعني في ما يعني التمسك بشرعية الدولة ومؤسساتها وليس بالشرعية الثورية. لأن الشرعية الثورية هي إسقاط لكافة مؤسسات الدولة وللقوانين المؤسسة لها فيصبح الثوريون في هذه الحالة هم الذين يصنعون القوانين ويجرون المحاكمات بدون الرجوع إلى أي نصّ مؤسس سابق على الثورة. وهذا بالضبط ما فعله السيد الرئيس الذي تسلم هذا المنصب بناء على شرعية الدولة. ومن هذا المعطى يجب أن نقرأ قرارات رئيس الجمهوريّة المصريّ ونحكم على شرعيّتها أو عدم شرعيتها.
يبدو جليّا ذلك الوقت أنّ جماعة الإخوان المسلمين بمن فيها الرّئيس الحالي، اعترفت بالثّورة داخل إطار الدّولة. ولذلك دخلت الانتخابات البرلمانية والرئاسية حسب أحكام الإعلان الدّستوريّ، وهذا يلزم هذه الجماعة باحترام القواعد المؤسّسة وعدم الخروج عليها لأيّ سبب من الأسباب حتّى وإن كان ثمّة حاجة إلى تعديلها، فهذا ممكن فقط من خلال الإجراءات الشّكليّة المنصوص عليها في الدّستور. أمّا من النّاحية الموضوعيّة، فإنّ هذا التعديل للإعلان الدّستوريّ يقضي بإلغاء إحدى سلطات الدّولة مثل ما حصل في هذه القرارات الرئاسية التي ألغى بها دور السلطة القضائية واحتكر السّلطتين التّنفيذية والتّشريعيّة في شخصه، ولذلك فستكون له تداعيات في غاية الخطورة. إنه ثورة جديدة تستهدف تفكيك الدّولة لإعادة بنائها على أسس جديدة، وهذا ما يبدو أنّه بدأ يقع بالفعل من خلال هذه القرارات الرئاسية. إنّ مرسي اليوم هو الدّولة، والدّولة هي مرسي. وهذا لم يحدث قطّ في تاريخ مصر الحديث، لا في زمن الملوكيّة ولا في زمن الدّكتاتوريات العسكريّة المتتالية.
لذلك فمن حقّ المعارضين فلي مصر أن يتوجّسوا خيفة من دكتاتوريّة جديدة في طور التّأسيس، وإنّ الإجماع الذي انعقد على إسقاط النظام الدّكتاتوري والإبقاء على الدولة إبان الثورة قد تهاوى بفعل هذه القرارات الرئاسية الأخيرة.
فلماذا أقدم الرئيس مرسي على هذه القرارات الخطيرة؟
يبدو أنّ السيد الرئيس عندما أمسك بزمام الحكم هاله ما رأى من تردّي أوضاع الاقتصاد وتهالك المؤسسات وتفشي الفساد، وفهم أنه لا يستطيع أن يحدث أي نقلة سريعة يرضي بها أغلبية الشعب الذي ينتظر تحسين مستوى معيشته والرفع من مستوى الخدمات الاجتماعية والصحية، وتبين له بوضوح الفرق الكبير بين رفع شعارات المعارضة الرومنسية وتحقيقها على أرض الواقع. أمّا جماعة الإخوان المسلمين التي ينتمي إليها وحلقة الوصل بينها وبين الرئاسة المتمثلة في حزب الحرية والعدالة الاسلامي فقد أدركت أنّها مقبلة على انتكاسة خطيرة في الانتخابات القادمة قد تهمشها إلى الأبد وتفقدها الأغلبية التي تتمتع بها. لذلك دفعت الرئيس مرسي إلى قرارات الانقلاب على الشرعية بتقويض أركان الدولة وصياغة أسس دولة جديدة تكفل لهم الأغلبية الأبدية، بما في ذلك تزوير الانتخابات. وما هذه القرارات الرئاسية وإخضاع السلطة القضائية للرئاسة إلا مقدمة لذلك.
إنّ الأمميّة الإسلاميّة لن تقدم على انتخابات قد تحكمها حكم أكبر دولة عربيّة وهي مصر، التي من خلالها تريد أن تصدّر الثورة إلى الدّول المجاورة. وكلّ ذلك لخدمة الهدف الأسمى الذي كافحت من أجله لعدّة عقود، وهو إقامة الخلافة الإسلاميّة. ربّما كان هذا السبب الرئيسي الذي جعلها تدفع بالرئيس مرسي إلى اتخاذ هذه الإجراءات. فهذا الخيار هو خيار وجوديّ، بمعنى أنّها قضيّة حياة أو موت، ولذلك فهو يستحقّ هذه المقامرة الخطيرة.
إنّ هذا الانقلاب الذي قامت به جماعة الإخوان في مصر ليس انقلابا على الثّورة فحسب، بل هو انقلاب على الدّولة أيضا. وسوف يكون المخبر الحقيقيّ الذي سيعمّم على بقيّة أقطار المنطقة إذا كتب له النّجاح. لذلك نرى أنّ هذه القرارات قد تنتج أحد هذه السيناريوهات الأربعة :
1-تراجع الرئيس مرسي عن قراراته، وإقرار التهدئة في المجتمع في انتظار فرصة قادمة للانقضاض على الدولة.
2-عدم تراجع الرئيس عن قراراته واستمرار الفوضى التي قد تقود إلى حرب أهلية يكون وقودها من سكان العشوائيات التي لم تتحرك بعد، فتقضي على الدولة، وقد تدخل أتونها منطقة الشرق الأوسط والشمال الإفريقيّ.
3-انقلاب عسكري يقوم به الجيش لضبط المجتمع وإعادة الدكتاتورية العسكرية من خلال الأحكام العرفية وقوانين الطوارئ.
4-عدم تراجع الرئيس عن هذه القرارات واستعمال العنف ضد المعارضين وإقامة الدكتاتورية التيوقراطية بزعامة الإخوان المسلمين، وذلك بالاستعانة بالمؤسسة العسكرية وقوى الأمن، ومباركة القوى الخارجية، وهذه تعتبر تجربة قابلة للتعميم على كامل المنطقة.