عندما حصّلت الأغلبيّة السّاحقة من الشّعب اللّيبيّ على سلاحها الشّرعيّ أشهرته في وجه الجميع وكان هذا السّلاح متمثّلا في بطاقة الاقتراع. هرعت الأغلبيّة الصّامتة إلى التّصويت وانتخبت ممثّليها في المؤتمر الوطنيّ العامّ. كانت هذه الجماهير تنتظر بفارغ الصّبر هذه اللّحظة التّاريخيّة لتقول كلمتها المكتومة، فهي لم تعبّر عن نفسها منذ انتهاء الصّدام مع نظام الطّاغية الذي رفضته ودفعت كلفة غالية من فلذات أكبادها على مذبح الحرّيّة للخلاص منه. منذ ذلك اليوم وهي تترقّب أن تعطى الحقّ في الكلام، فاغتنمت فرصتها عندما سمح لها بذلك وعبّرت عن حاجتها إلى الدّولة التي توفّر الأمن والأمان، وأدلت بأصواتها وانتخبت أعضاء المؤتمر الوطنيّ الذي يلتئم في هذه الأيّام. فما هو المطلوب من

هذا المؤتمر المؤسّس؟
ما يطلبه اللّيبيّون من مؤتمرهم الذي انتخبوه، ولأوّل مرّة في تاريخهم، بحرّيّة وبدون تزييف أو تزوير لإراداتهم، هو مطلب قيام الدّولة. والامتحان العسير لهذا المؤتمر هو قدرته على إنجاز هذا الاستحقاق.
صحيح أنّ اللّيبيّين يعانون من البطالة التي وصلت حسب الإحصائيّات الأخيرة إلى 45 بالمائة من السّكّان في سنّ العمل، وصحيح أنّ اللّيبيّين ينتظرون حلّ مشاكل الإسكان والبنية التّحتيّة، وتحسين الخدمات الصّحّيّة، وهيكلة التّعليم، وبعضهم يترقّب العدالة، وإنزال العقاب بمن قتل أبناءهم، والبعض الآخر ينتظر لأكثر من ثلاثة عقود استرجاع أملاكه التي سلبت منه بدون وجه حقّ، ولكنّ لن يتحقّق أيّ من هذه المطالب دون قيام الدّولة.

فما هي أهمّ معوّقات قيامها؟
إنّ الدّولة لها ثلاثة أركان تكفّ عن الوجود إذا انتفى أيّ واحد منها، وهي : الشّعب والإقليم والسّلطة. أمّا ركنا الشّعب والإقليم فهما متواجدان منذ فترة تاريخيّة ليست بالقصيرة وما زالا قائمين. وأمّا ركن السّلطة، فهو غير موجود بالمعنى الحديث لهذا المصطلح منذ سقوط النّظام الملكيّ، وأقصد بذلك السّلطة غير القلقة المتجذّرة في مؤسّسة والمتطابقة مع الخير العامّ. لقد تجسّدت السّلطة في ليبيا بعد سنة 1973 في شخص الحاكم واختُزلت في رغباته. وكانت للقذّافي قدرة كبيرة على فهم أصول الحكم الشّموليّ وبراعة كبيرة في تفصيل سلطة الدّولة على مقاسه. ومن ثمّة كفّت السّلطة على أن تكون للدّولة بالمفهوم الحديث وأضحت مجموعة من أدوات القهر لضبط المجتمع ولضبط الجموع.
ولكن ما معنى السّلطة التي تشكل ركن الدّولة الحديثة؟
السّلطة تتجلّى في ثلاثة عناصر : السّلطة التّنفيذيّة والسّلطة التّشريعيّة والسّلطة القضائيّة. السّلطة التّنفيذيّة تتمثّل في الحكومة وتتجلّى في تسيير الإدارة وفي استعمال أجهزة الأمن طبقا للقانون مع حصر مهمّة الجيش في الدّفاع عن حدود الإقليم. أمّا السّلطة التّشريعيّة فهي معمل القوانين التي تحدّد مجمل الأهداف والتّطلّعات التي يتوق إليها المجتمع والتي تكون قد حدّدت سلفا في الدّستور فتصوغ كلّ ذلك في قوانين واجبة النّفاذ. أمّا السّلطة القضائيّة فإلى جانب أنّها تفصل في النّزاعات بين المواطنين فيما شجر بينن وفيما شجر بينهم وبين الإدارة من أجل استتباب الأمن المجتمعيّ، فهي في قمّتها تفصل بين السلطتين التّشريعيّة والتّنفيذيّة لفضّ أيّ اشتباك ولجم أيّ تغوّل بين هاتين السّلطتين بالطّرق السّلميّة وتكون أحكامها النّهائيّة عنوانا للحقيقة سواء كان ذلك على مستوى الأفراد أم على مستوى المؤسّسات.
بعد هذا التّوضيح يحقّ لنا أن نتساءل : هل كانت السّلطة قائمة في ظلّ الدّكتاتوريّة السّابقة، وهل مازالت قائمة بعد سقوطها؟
في ظلّ النّظام السّابق كانت ثمّة سلطة ولكنّها أقرب إلى السّلطة المافيويّة بيد رأس النّظام. فهو الذي يتحكّم في عناصرها الثّلاثة. فأمّا السّلطة التشريعيّة فقد كانت متمثّلة في مؤتمر الشّعب العامّ، وأمّا التّنفيذيّة فقد كان القذّافي يعيّنها ويعفيها متى شاء ممهورة ببصمة المؤتمر الذي تتلقّى أمانته توجيهات بما يجب فعله وبدون نقاش. وأمّا السّلطة القضائيّة فقد خرّبت وأضحى أكثر قضاتها يملى عليهم منطوق الأحكام بالهاتف في القضايا التي تهمّ الحاكم وأمنه. أمّا الأحكام التي تخصّ المواطنين فكانت تمليها الرّشاوى في الغالب. وللأمانة يجب أن لا نعمّم هذا الحكم، ولكنّ كثيرا من القضاة ساروا على هذا الدّرب المدنّس. وقد كان القذّافي يتحكّم في الأمن والقوات المسلّحة شخصيّا وبدون إنابة. فلم يكن تباهيه بأنّه لا يحكم وقد سلّم الحكم إلى الشّعب منذ زمن طويل، وأنّه مواطن عاديّ فما كان ذلك إلاّ إمعانا في تتفيه ذكاء النّاس وإيغالا في تحقيرهم، وكان الكلّ يعلم أنّه يعرف كلّ شاردة وواردة وأن لا أحد يستطيع أن يتّخذ أيّ قرار لا يكون في إطار توجيهاته التي ترقى إلى مستوى القانون بالرّغم من عدم توقيعها منه وعدم إعلانها في الجريدة الرّسميّة.
بعد سقوط القذّافيّ، هل ثمّة سلطة الآن؟ نعم هناك سلطة، لأنّ السّلطة لا تكفّ عن الوجود ولكنها ليست سلطة الدّولة، بل سلطة متشظّية يتقاسمها آلاف البشر ممّن يمتشقون السّلاح. ولكن من هم هؤلاء المسلّحون الذين يحوزون على شظايا هذه السّلطة؟
إنّ ظاهرة انتشار السّلاح بدأت مع قيام الثّورة ضدّ نظام القذّافي. فكان الثّوّار يغنمون السّلاح من كتائبه ليدافعوا به عن أنفسهم وكان هذا السّلاح موجّها إلى العدوّ المشترك واستطاع الثّوّار أن يوحّدوا صفوفهم في مواجهة النّظام حتّى أسقطوه، ولكن ما إن تحرّرت العاصمة طرابلس وتبع ذلك مقتل القذّافيّ في سرت حتّى دّبت الفوضى وتكاثر حاملو السّلاح واستولت جماعات مختلفة على مخازن الأسلحة والذّخيرة ومعسكرات الجيش.
ما يعرفه اللّيبيّون هو أنّ الثّوّار الحقيقيّين الذين قاموا بالثّورة المسلّحة وواجهوا النّظام ودفعوا أثمانا باهظة في الأرواح والأجساد قد أضحوا أقلّيّة صغيرة مقارنة بالأعداد الغفيرة التي تتناكب السّلاح على مساحة جملة تراب الوطن.
إذن من هؤلاء الذين يشكّلون الأغلبيّة المسلّحة اليوم؟ هؤلاء إذا استثنينا أقلّيّة الثّوار الحقيقيّين هم :
1-آلاف العاطلين عن العمل من الشّباب الذين أهملهم العهد السّابق. فقد أخذوا السّلاح إمّا لاستئجارهم من قبل الأغنياء والمتنفّذين، وإمّا لأنّهم يريدون أن يدافعوا عن حقوقهم المستقبليّة نظرا إلى أنّهم ما عادوا يثقون بوعود أحد.
2-مجرمون محترفون فتح القذّافي لهم أبواب السّجون منذ اليوم الأوّل للثّورة، وحتّى الآن لا نعلم على وجه اليقين لا ندري لماذا فعل ذلك : هل لأجل إيجاد معتقلات للثّوّار؟ أم لإخافة المجتمع حتّى يصطفّ إلى جانبه طالبا الحماية والأمان أو لاستغلالهم في ارتكاب جرائم ضدّ المدن والقرى الثائرة على نظامه ولكنّ النتيجة هي أنّهم استولوا على السّلاح وأصبحوا ينهبون ويسرقون ويروّعون السّكّان الآمنين.
3-جزء من كتائب القذافي التي تشرذمت ورأت الفرصة سانحة بعد سقوط طرابلس لأن تتربّح بسلاحها أو تدافع عن نفسها خوفا من محاسبتها على ما ارتكبته في حقّ النّاس. فخلعت زيّها العسكريّ القديم ورفعت علم الثّوّار واستولت على كثير من السّلاح الذي تعرف مخازنه ومواقعه.
4-بعض هذه المليشيات تتبع قبائل تقاعست في الالتحاق بالثّورة لأسباب مختلفة وأحسّت بأنّها مهدّدة بسبب عداوات تاريخيّة مع جيرانها فشكلت ميليشيات مسلّحة تابعة لها لتعطيها الحماية وتشعرها بالأمان لأنّ امتلاكها لقوة رادعة يجعل الآخرين يخشون الاعتداء عليها.
5-التّشكيلات المتشدّدة ذات العلاقة بتنظيم القاعدة أو القريبة منها استطاعت أن تجد ملاذا آمنا في غياب الدّولة وخرجت أكثر من مرّة في تظاهرات مسلّحة رافعة أعلام القاعدة السّوداء، ولا أحد يعرف الأعداد الحقيقيّة لأفرادها على وجه الدّقّة أو كمّيّة ونوعيّة السّلاح الذي بحوزتها. والثّابت أنّ لها معسكرات في أكثر من منطقة على التّراب الوطنيّ.
لهذا كلّه تضخّم عدد حاملي السّلاح بحبث أنّ آخر التّقديرات تتحدّث عن وجود أكثر من 300 ألف مسلّح والأسلحة التي بحوزتهم من كلّ الأصناف بما فيها الأسلحة الثّقيلة كالمدافع والرّاجمات والدّبّابات والمضادّات الجوّيّة. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنّ المعلومات تقول إنّ كمّيّة المتفجّرات التي كان يمتلكها النظام، وهي أكبر مخزون في القارّة الإفريقيّة، قد تمّ الاستيلاء على جانب منها، وهي قادرة على تدمير المدن والقرى بالشّمال الإفريقيّ إذا وقعت في أيدي المتشدّدين الّتكفيريّين ذوي الإيديولوجيّة والأهداف العابرة للأوطان والدّولة.
نستطيع أن نقول إذن أنّ كلّا من هؤلاء يحوز على جزء من السّلطة وإنّ إقامة الدّولة تتطلّب نزع كلّ هذه السّلطات المتجزّئة ووضعها في يد سلطة شرعيّة واحدة لا تقوم أو تتجلّى في الواقع بدون ملكيّة القوّة واحتكار استعمالها. فهل هذا ممكن الحدوث؟ هذا هو السّؤال الذي يجب أن يطرحه ويجيب عنه أعضاء المؤتمر الوطني العامّ والحكومة التي سوف يشكّلها.
نعترف أنّ هذه المهمّة عسيرة وتتطلّب شيئا أشبه بالمعجزة في زمن ظنين بالممكن .لذلك يجب أن يعلم أعضاء المؤتمر الوطنيّ الموقّرون أنّ كثيرا من الفئات التي ذكرناها آنفا قد لا تستجيب إلى الأمر بنزع سلاحها لأنّها غدت تتعيّش من فوهة البندقيّة، والأنكى من ذلك كلّه أنّهم يخافون من قيام الدّولة التي ستجرّدهم من أملاك خاصّة وعامّة قد استولوا عليها بدون وجه حقّ، وهذا ما سيجعل المهمّة صعبة جدّا ولكنّها بإرادة كلّ الشّعب يمكن أن تتدحرج من قمّة الاستحالة إلى وهاد الممكن. وبمعنى آخر نتمنّى لهذا المؤتمر الكريم أن يحقّق أمل الأغلبيّة الصّامتة التي انتخبته في الأمن والأمان بإقامة الدّولة. والأمل آخر ما ينطفئ في النّفس البشريّة.