كانت الشعوب التي انتفضت على حكامها فيما يسمى بالربيع العربي تقبع تحت أنظمة مستبدة وفاسدة، وتدير مجتمعاتها بالعنف و الجور، و كانت الجماهير لا تستطيع أن تعبّر عن نفسها، لأنّ الانتخابات المزورة كانت تنتج برلمانات شكلية تشرع لرغائب الدكتاتور وتسخّر كل المؤسسات لتنفيذ كل ما يبتهج به المستبد.
و جاء الربيع العربي و سقطت هذه الزعامات في مزبلة التاريخ، غير مأسوف عليها.
بعد ذلك أقيمت انتخابات حرة إلى حد كبير. ورغم ما شابها من خروقات، فإن ذلك لم تكن ليغير كثيرا في النتائج التي برزت من صناديق الاقتراع، و هي رغبة السّواد الأعظم لهذه الشعوب في اختيار الاحزاب الاسلامية حكاما شرعيين جدد ليحلوا محل الطغاة الذين أسقطتهم ثوراتها.
و أيّا كانت حدة الخلاف بين الفاعلين السياسيين في فترة ما قبل الانتخابات، إلا أن النزاهة الفكرية والسياسية تقتضي الاعتراف بهذه النتائج التي أفرزت أغلبية ساحقة لقوى الاسلام السياسي.
وإن احترام قواعد اللعبة لا يفرض على الجميع الاعتراف بنجاح الخصم فحسب، بل وإعطاءه الفرصة لتطبيق برنامجه الذي انتخب بناء عليه على أرض الواقع.
إن برنامج الاسلام السياسي لم يكن برنامجا تآمريا يناقش في الحجرات المغلقة، أو أمرا دبّر بالليل، بل إنه كان مشروعا معلنا منذ ما يقارب القرن، ويكفي أن نرجع إلى أدبيات هذه الاحزاب ومفكريها حتّى نكتشف وضوحه وصراحته في الانتقال بالمجتمعات الاسلامية من حالة الفوضى التشريعية التي وسمت منظوماتها القانونية بعد الاستقلال إلى مرحلة تتسم بتناغم تشريعاتها مع معتقدات الجماهير. فقد كانوا يعتبرون أن انعتاق هذه الجماهير المؤمنة لن يتم إلا بتكريس نظرتها إلى نفسها والعالم و تحقيق الاهداف التي تصبوا إليها من خلال شكل المجتمع الذي تسعى إلى إرسائه عندما تسترد حريتها في التعبير عن نفسها.
و كان منطقيا أن تكون كتابة الدستور وتحديد شكل الدولة ووضع الخطوط العريضة للحقوق التي يجب صونها هو أول امتحان لهذه القوى الجديدة، بحيث تثبت جديتها في تطبيق ما أعلنت عنه الجماهير التي انتخبتها.
لذلك نرى أن الضجيج الذي تقوم به القوى المهزومة في الانتخابات أمر مشروع من الناحية النضالية، بالرغم من عدم جدواه بسبب تهالك المجتمع المدني بفعل الدكتاتورية، إلا أن هذه الاحتجاجات يجب أن تكون منضبطة بقواعد الشرعية التي تم التوافق عليها عندما قبلت هذه القوى بالانتخابات وباحترام ما يتمخض عنها.
و لعل أبرز ما تنادي به قوى الاسلام السياسي و أحزابها الظافرة هو quot;تطبيق الشريعة الاسلاميةquot; لإعادة إنتاج مجتمع فجر الاسلام بالمدينة، وهي تعتبر أن تحقيق هذا المجتمع هو الكفيل بتطهير مجتمعاتنا من الملوثات الغربية التي تسللت إلى قوانين و معتقدات و ثقافة أهل أرض الاسلام.
كما تعتبر ان إقامة حكم الشرع هو وحده الكفيل ببناء هذه المجتمعات وتحقيق ازدهارها، و ارساء حضارة جديدة تنهي وإلى الابد ثقافة quot;الاغترابquot; التي اعترت اجتماعها البشري.
نحن لا نختلف مع هذه القوى السياسية في حقها في فعل كل ذلك بفضل انتصاراتها الانتخابية المذهلة، ولكننا نختلف معها في شيء واحد وهو رغبتها في تطبيق الشريعة بشكل انتقائي وعلى الاخص فيما يتعلق بالاحكام قطعية الثبوت و الدلالة.
و يمكن أن نجعل هذه الاحكام فيما يلي :
1- إقامة الحدود و ذلك بقطع يد السارق، و تقطيع الايدي والارجل من خلاف في حالة الحرابة وquot;الافساد في الارضquot;، و جلد شارب الخمر في مكان عام وأمام للجمهور، ورجم الزناة بالحجارة في جمهور من المسلمين، و عدم ادعاء الدولة بالحق العام في حالات القصاص باعتبارها حقا لولي الامر.
2- منع صدور الصحف و المطبوعات التي تنال من ولي الأمر أو تشكك في قناعات الامة، وذلك درءا للإرجاف.
3- فرض الجزية على أهل الذمة من يهود و نصارى ممن يقيمون على أرض الاسلام، وعدم السماح لهم بتولّي المناصب العامة، حيث لا ولاية لكافر على مسلم، و إلغاء فكرة المواطنة الدخيلة وقصر الحقوق على المؤمن فقط.
4- إعادة مؤسّسة الرق الذي ألغي بمعاهدات دولية، فرضت على بلاد الاسلام فرضا في فترة ضعف الامة وخنوعها، لأن الرق حلال، ومن يحرّم حلالا كمن يُحلّ حراما، وحتى من دافع عن الرّقيق في الماضي فإنّه لم يعارض فكرة الاسترقاق، بل قصد حسن المعاملة والرفق بالأرقاء، وهذا تنظيم لمؤسسة الرق، وتقوية لها وليس إلغاء.
5- في نظام الاسرة، وإلى جانب عدم المساس عن حقّ الرجل في الزواج مثنى و ثلاثى و رباعى، فلابد من تقنين امتلاك الجواري وحق المؤمن في التصرف بهنّ بالبيع و الشراء والهبة باعتبارهنّ ملك يمينه.
6- سن قوانين تمنع الاختلاط في المدارس والمعاهد والجامعات ودوائر العمل، و منع أي نوع من الاختلاط الجالب للمفاسد.
7- منع جميع المصارف التي تتعامل بالفائدة باعتبارها فوائد ربوية، ومنع جميع المصارف الاسلامية من التعامل مع أي مصرف في العالم يكرس موضوع الفائدة.
8- وضع نص صريح في الدستور يقضي بأن كل خطيئة هي جريمة يجب معاقبة مرتكبيها بالتعزير إذا لم تتوفر فيه شروط تطبيق الحدود.
9- الانسحاب من كافة المعاهدات الدولية التي تقضي بنودها بإجازة الحرام أو تجريم فعل مباح في ديار الاسلام وعلى الأخص شرعة حقوق الإنسان، لأنها تتعارض تعارضا واضحا مع أحكام الشريعة.
إذا طبقت أحكام الشريعة من قبل الاحزاب السياسية كاملة، فإنّ ذلك سيدل على نزاهتها واحترامها لجماهيرها، أما إذا طبقتها بطريقة انتقائية، فذلك سيدل على انتهازية سياسية الغرض منها منافقة الشعوب وامتطاء رغباتها الجامحة حتى تصل إلى السلطة و تتحكم في الناس.
كما ان الادعاء بعدم القدرة على تطبيق الشريعة لخصوصية الزمان أو ظرفية المكان أمر مرفوض لأنهم كانوا دوما يقولون بأن الشريعة quot;صالحة لكل زمان ومكانquot;، وأن الاسلام يختلف عن كل الاديان باعتباره دينا و دولة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، إذا تقاعست هذه الاحزاب عن تطبيق الشريعة لعوائق زمانية أو مكانية أو أسباب أملتها ظروف محلية أو دولية، فإنه يحق لكل القوى السياسية الاخرى أن تطعن في شرعية وصول هذه الاحزاب للسلطة لأنها خدعت جماهيرها ولأن انتصارها كان نتيجة تدليس أضر بالقوى السياسية المتنافسة.
كما أن ذلك يعيد فتح باب النقاش على مصراعيه حول إمكانية تطبيق الشريعة فقط في الاحوال الشخصية مع مراعاة قواعد حقوق الانسان التي شيطنها الاسلام السياسي، و أكمل قطيعته منذ زمن بعيد.
مختصر القول أن قوى الإسلام السّياسيّ ومنذ تأسيس حركة الإخوان المسلمين سنة 1928 ناضلت من أجل تحقيق هذه الاهداف ودفعت بعشرات الآلاف من القتلى والمعتقلين، وشحنوا هذه المجتمعات ضدّ من يقف ضدّ مشروعهم الذي سيرجع الناس إلى الطريق القويم بالخضوع إلى الشرع وتحقيق مشيئة الله على الارض. فهبت الجماهير المؤمنة وأزاحت العوائق المتمثلة في الطغاة واختارت اختيارا حرا هذه الاحزاب لتطبيق أهدافها.
لذلك ليس لهم اليوم أن يتعلّلوا بأي عذر في عدم تطبيق الشريعة الاسلامية كاملة غير منقوصة، وسوف يكون البديل عند ذلك سقوط مشروع الاسلام السياسي إلى غير رجعة.