تعتبر العشائر العراقية أحد أهم المكونات الاجتماعية في العراق التي فرضت وجودها منذ أقدم الأزمنة، مثلما فرضت قدرتها على التحكم في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وكذلك السياسية وذلك لأن بنية المجتمع هي بنية قبلية ذات نزعة أبوية بطريركية ذكورية وتغالبية في العائلة والمجتمع والسلطة.
وقد اخذت العشائر العراقية منذ بداية القرن العشرين وتشكيل الدولة العراقية بالاستقرار التدريجي والتحول الى الزراعة وذلك للأجراءات العديدة التي اتخذتها الحكومات العراقية المتعاقبة لاضعاف قوة العشائر ورفع quot;الخاوةquot; التي تفرضها العشائر القوية على الأضعف منها. وبالرغم من ان العشائر العراقية كونت الجزء الاكبر من السكان إلا انها كانت الأضعف تأثيرا في الدولة وليس المجتمع، لانها لم تكن مؤهلة للمشاركة في العملية السياسية بصورة مباشرة، اذ كان سكان المدن هم الأقوى تأثيرا في بناء الدولة وصنع القرار السياسي. وقد استطاع العراق خلال الحكم الملكي الحد من المنازعات العشائرية والتقليل من تأثير القيم والتقاليد والاعراف والعصبيات العشائرية وبسط سلطة القانون والمجتمع الحضري.
غير ان العلاقات الاجتماعية شبه الاقطاعية في الريف ووضعية الفلاحين المزرية وظروف العمل المتخلفة وانعدام ادنى شروط السكن والصحة والنظافة والتغذية دهورت اوضاع الفلاحين وقادت الى افقار شديد دفع اكثرية الفلاحين الى الهرب من واقعهم المزري والهجرة الى عالم المدينة الضبابي المملوء بالأحلام العريضة علهم يجدون فيه عزاء وسلوى. فمنذ بداية الاربعينيات من القرن الماضي بدأت موجات النزوح الريفي الى المدن الكبيرة وبخاصة العاصمة بغداد بحثاً عن أي عمل كان وبالتالي الانخراط في حياة المدينة والعمل في دوائر الدولة والخدمات وشركات البناء وغيرها، مما سبب تغلغل القيم والاعراف العشائرية في المجتمع الحضري من جديد وترييف المدن، مما شكل تحديا كبيرا واجه بناء الدولة الحديثة وقسم المجتمع العراقى الى قبائل وطوائف ومناطق وحوَل الصراعات والمنازعات والعصبيات العشائرية الى المدن والاحياء ومؤسسات الدولة والمجتمع.
وقد استعادت العشائر العراقية بعض قوتها منذ التسعينات من القرن الماضي واخذت ترسخ مواقعها وتستعيد وظائفها القبلية القديمة بجعلها مسؤولة عن قبول الديًة والخاوة والحشم والفصل والتشديد على الشكل التقليدي من الانتساب الى قبائل عربية والتفاخر بالنسب اليها بعد ان استعان صدام حسين بالعشائر العراقية بعد حربي الخليج والحصار المجحف.
مما مر اعلاه يلاحظ الباحث الاجتماعي انه مهما تطور المجتمع العراقي خلال العقود الثمانية الاخيرة، فان القيم والاعراف والعصبيات العشائرية ما زالت متحكمة فيه، وانه مهما تطورت الدولة ومؤسسات المحتمع المدني، فان نزعة التسلط والتغالب والتعصب ما زالت كامنة وتتحكم في سلوك الافراد واخلاقياتهم. وبالرغم من ان العصبية القبلية والمنازعات العشائرية قد خفت بين العشائر، غير انها تحولت من دائرة القبيلة الى دوائر المنطقة والمدينة والمحلة والطائفة واتخذت مسميات جديدة كالشطارة والمرجلة والحيلة والشقاوة وترسخت في سلوك الافراد واخلاقياتهم واصبحت وكانها قيما جديدة.
ومن المعروف انه كلما تضعف الدولة وسلطاتها التشريعية والقضائية والتنفيذية، كلما تقوى الاطراف وتسيطر العشائر والطوائف وعصبياتها على مؤسسات الدولة والمجتمع المدني. والمهم في الأمر هي ان القيم والاعراف والعصبيات العشائرية تصبح بديلا للقانون، والعشيرة بديلا للدولة المركزية ويستغل شيوخ العشائر ورؤوساء الطوائف والمحلات وكذلك الافراد، الفوضى التي تعم البلاد وضعف تطبيق القوانين فتستأثر بالاوضاع وتستغل بعض العشائر والطوائف هذا الوضع الضعيف لتمرير اهدافهم وتحقيق مصالحهم الخاصة.
الفصل العشائري
ومن ابشع صور الاستغلال هذه، الفصل العشائري. فهو في صورته الاساسية حق القبيلة في الدفاع عن المظلوم من افرادها واخذ الحق من الظالم ولكن ضمن القبائل، وفي وقت لم يكن هناك دولة وقانون ومؤسسات مجتمع مدني .
أما اليوم فقد تحول الفصل العشائري الى تجارة مربحة مثيرة للاهتمام وبابا للربح السريع وفرض الأتاوات على الاضعف منهم ومن ثم فرض سلطة العشيرة وهيمنتها بدل سلطة الدولة وهيمنة القانون. وقد وصلت بعض الأتاوات التي تفرضها المجالس العشائرية لحل المنازعات بين الاطراف المتخاصمة الى اكثر من 100 مليون دينار عراقي. والمشكلة فان مجالس العشائر تهدد من لا يستطيع دفع الاتاوة او الدية او العطوة، أي مبلغ الفصل العشائري، بتهديم داره على رأسه واطلاق عيارات نارية امام داره مما يضطر للخضوع والابتزاز رغما عنه وعن القانون.
ان القيم والعصبيات العشائرية مبنية على اعراف قبلية تعود في اصولها الى القيم والاعراف البدوية القديمة التي سادت في الصحراء كالتغالب والفخر والدخالة والفصل العشائري، هذه الظاهرة التي اخذت تستفحل اليوم في العراق منذ سقوط النظام القديم واحتلال العراق حيث نجد اليوم اعدادا كبيرة من المجالس العشائرية التي تجتمع في خيم كبيرة التي تنصب على جانب الطرق في بغداد والموصل والبصرة وغيرها من المدن للقيام باحدى قضايا الفصل العشائري. وهذه ليست محاكم أصولية، وانما مجالس عشائرية تنظر في قضايا غريبة جدا، فمثلا في حالة أخ قتل أخاه ، فان افراد القبيلة لا يتهمون الأخ وانما يتهمون قبيلة أخرى بقتله ويطالبون منها دفع الدية، مبررين ذلك بانه اذا لم يكن هناك عداء مع القبيلة، فليس من الممكن وقوع القتل. ويقوم شيخ القبيلة، الذي يتخذ قرارا لا يجروء أحد على تحديه، بتحديد مبلغ الأتاوة او الدية وهو مبلغ عشرون ألف دولار او اكثر. مدعيا ان للقبيلة نظام عشائري ملزم ويجب التوصل الى تسوية حتى لا يقوم أي فرد بارتكاب جرائم مرة اخرى ويحصل الناس على حقوقهم من خلال المجالس العشائرية.
والمشكلة ان الفصل العشائري كان قد تعدى نطاق العشيرة الى المؤسسات الرسمية وغير الرسمية، واخذت تطال الاساتذة والافراد وبصورة خاصة الاطباء، مما يشكل خطورة كبيرة على مستقبل المؤسسة الطبية ذات التاريخ العلمي والعملي الناصع في العراق، حيث يتعرض الطبيب للتهديد من قبل احدى العشائر تطلب منه ان يفعل ما ليس باستطاعته، فمثلا عندما يموت مريض لاسباب عديدة تتجاوز قدرة الطبيب احيانا، فسوف يتعرض الطبيب الى فصل عشائري، وهو ما يعرض العلاقة الوثيقة القائمة على الثقة بين الطبيب والمريض لشرخ كبير. والحقيقة فان الاخطاء المهنية، ان حدثت، فمثل هذه الحالات هي من مهمات محاكم التحقيق والمحاكم الجنائية والقانون العراقي هو الفصل في كل القضايا.
ان استفحال مثل هذه الظواهر الشاذة دفعت اطباء العراق الى التجمع والاحتجاج لأستعادة سمعة هذه المؤسسة العريقة ومطالبة السلطات ضمان مطاليبهم المشروعة ، خاصة وان عددا من الاطباء هاجروا من البلد تخلصا من عنف المجالس العشائرية، كما اضطر عدد كبير من الاطباء الاختصاصيين بالجراحة الى العزوف عن اجراء العمليات الكبرى التي تكون فيها فرص وفاة المريض كبيرة وذلك بسبب الخوف من الفصل العشائري، مما شجع على سفر بعض المرضى الذين يحتاجون الى اجراء عمايات جراحية كبرى الى خارج العراق. وهو ما قلص فرص التطور والابداع لدى الاطباء الجراحين. والمشكلة هي ان بعض المسؤولين ورؤوساء بعض المحافظات يشاركون في فض المنازعات بين الافراد او بين العشائر دون ان يتركوا ذلك لحكم القانون، عن طريق المجالس العشائرية. وكان من المفروض على الحكومة ان تقف بحزم ومنذ البداية ضد هذه الظاهرة الخطيرة وان تتخذ الاجراءات اللازمة والسريعة لتفعيل قانون العقوبات العراقية الذي لم يطبق بالشكل الصحيح وتشريع قانون حماية الاطباء والمستشفيات وان تقوم العشائر نفسها باصدار بيان يعلنون فيه رفضهم لهذه الظواهر التي تسيء الى سمعتهم وكرامتهم.
ان هذه الظواهر الاجتماعية المتخلفة تدل بوضوع على ضعف الدولة وضعف وروح المواطنة وعدم فاعلية مؤسساتها القضائية .
- آخر تحديث :
التعليقات