قبل أن يطل علينا العام الجديد أعلنت وزارة الثقافة العراقية علينا بالإعلان أن مدينة النجف ستكون عاصمة الثقافة الإسلامية لعام 2012. وتشكلت لجنة متخصصة بالمشاريع الخاصة بالإحتفالات. وبدأ العمل وأعلن الخبر وعمم في وكالات الأنباء وتقرر أن يقام أحتفال في مدينة النجف في أول العام وأن تستمر النشاطات الثقافية على مدى العام وأنشأ لهذا موقع على الإنترنت إسمه quot;النجف عاصمة الثقافة الإسلامية لعام 2012quot;. ثم تقرر فجأة أن تؤجل بداية الإحتفالات لغاية الخامس عشر من شهر مايس لكي تتزامن الإحتفالات مع وجود وفود القمة العربية المزمع إقامة مؤتمرهم في بغداد. هكذا كان الإدعاء!
فجأة تقول لجنة الإحتفالات في النجف الأشرف أنهم تلقوا مكالمة من وكيل الوزير ومدير عام الوزارة يعلمونهم فيها بتجميد كل النشاطات لأن قرار الوزارة يتجه نحو إلغاء فكرة النجف عاصمة الثقافة الإسلامية لهذا العام.
هنا يأتي السؤال المهني والإجرائي. هل ثمة دولة عراقية لها رئيس وزراء ورئيس جمهورية ndash; وبصراحة أنا ناسي وجود رئيس جمهورية في العراق في كثير من الأحيان فهو لا لون له ولا طعم ولا رائحة ndash; يجتمعون ويتحاسبون ويتم السؤال والجواب كيف لدولة أن تعلن عن مدينتها المقدسة عاصمة للثقافة الإسلامية وتوجه الدعوات للشخصيات الإعتبارية ثم يجتمع إثنان من الوزارة ولسبب ما غير معروف يتقرر ألغاء الفكرة.
عرفوني على دولة مثل دولتنا العراقية .. أرجوكم. أرجوكم أن تعرفوني على دولة مثل دولتنا العراقية. لا جيبوتي ولا الصومال ولا أثيوبيا تعمل ما تعمله الدولة العراقية ووزراؤها وحكومتها الموقرة.
هذا الحادث وحده يعطينا فكرة عن شكل الدولة القائمة. الحكومة العراقية بمكوناتها وبرلمانها ورئاسة جمهوريتها والأقاليم المستقلة والأخرى التي سوف تستقل .. كلها صفر في مفهوم الدولة. دولة يصرح فيها عضو برلمان أن الفارق بين الحد الأدنى والأعلى في رواتب الدولة العراقية يصل إلى حد 300 بالمائة بين أقل راتب وأعلى راتب وهو رقم لو عرض على أي مواطن عادي في أوربا لأنقلب على قفاه من شدة الضحك والعجب. فأية دولة هذه لها إسم وفيها برلمان وتصدر صحفاً وتؤسس فيها قنوات فضائية وغير فضائية!
سابقاً وفي أول وزارة للثقافة بعد الإحتلال حصلت حادثة أن عدداً من جنود الإحتلال البريطانيين والإمريكيين عندما أرسلت قوات بريطانية مساندة من الجنوب إلى بغداد لمساندة القوات الأمريكية قد ذهبوا في جولة أمنية مشتركة إلى بابل وهناك كانوا بحاجة إلى متاريس فتعذر عليهم أو أنهم لم يرغبوا في حفر الأرض وأخذ تراب بابلي لوضعه في أكياس من أجل تكديس الأكياس فوق بعضها. فصاروا يخرجون حجراً ورقماً وتماثيل ولوحات صلدة وهرسوها بالدبابات ووضعوها في أكياس فما كان من السيد وزير الثقافة سوى أن يعبر عن غضبه فيصدر بيانا بائساً يحتج فيه على الحادث وبقي في منصبه دون أن يخجل من فعلته. لو كان عراقياً حقاً لذهب حافياً وبيده حذاءه ووقف أمام الجنود وهم خلف متاريس الآثار العراقية ووجه حذائيه نحوهما وتلقى الرصاص ومات كي يرتفع له تمثال يوضع ليسد فراغ التماثيل التي هرست في بابل.
بهكذا وزارات نبني ثقافة العراق وبهكذا شخصيات تدار الوزارات وتكرم النجف المقدسة عاصمة للثقافة الإسلامية ثم تلغى في إجتماع لإثنين من مسئولي الوزارة.
إنني أتصورهم عندما يخرجون من الدوام ويندسون في سيارات مزججة بزجاج معتم حفاظاً على شخصياتهم من رعب الإرهاب.
كيف للإنسان أن يخاف .. لماذا يخاف الإنسان؟ يخاف الإنسان عندما لا يكون سوياً. يخاف الإنسان عندما تمتد يده على المال العام. يخاف الإنسان عندما يختفي وراء أسيجة الكونكريت في منطقة يطلق عليها الخضراء ويترك المواطنين بدون أسيجة. يخاف الإنسان عندما يترك الناس في الظلام ويصادر الأموال المخصصة للكهرباء. يخاف الإنسان عندما يشبع ويترك الناس جياعاً ومصير جوعهم وشبعهم في يده بالقانون أو بدون القانون بالأمريكان أو بدون الأمريكان. يخاف الإنسان عندما يترك حدوده مفتوحة للتجوال ولا ثمة كاميرات تراقب الحدود ولا ثمة أسلاك شائكة تمنعهم من الدخول أو تعيقهم من الدخول. يخاف الإنسان عندما يبيع ضميره. حينها لا يحتاج المسؤول إلى سيارات حماية ويستطيع أن ينام تحت ظل نخلة ولا يختفي وراء حجج واهية ويحرج الدولة ويحرج سمعة العراق ويحرج المقدسات ويحرج اللجان ولا أحد يعرف .. هل أختفت الميزانية المخصصة للنجف كعاصمة للثقافة الإسلامية أو نقصت بدون فواتير. لا أحد يعرف!
مجلس الوزراء مهما كان شكليلا في تشكيله عليه أن يشعر بالخجل مما حصل. المرجعية الدينية عليها أن تصدر بيانها وتحدد موقفها فالقرار ليس سهلاً لأنه شأن يتعلق بالوطن والعلاقات الخارجية والمدعوين والشخصيات الإعتبارية والبرامج الثقافية.
وزير الثقافة نفسه .. ما هو موقفه مما حصل؟ هل هو قرار يحسم في مكمالمة هاتفية بين وزارة الثقافة ولجنة النجف كعاصمة للثقافة الإسلامية ولها موقع على الإنترنت فيه كل أخبار النشاطات وأسماء الشخصيات التي سوف تحضر تلك الإحتفالات والناس الذين كلفوا بألقاء المحاضرات. هذه الدولة وهذه الوزارة لا تدرك معنى الثقافة وهي منذ تأسيسها حتى اليوم لم يدخلها سوى الجهل والمنتفعين والقوالين من شتى إتجاهات المحاصصة الطائفية التي عمت العراق وعميته. فكيف يثق المثقف والمبدع بمثل هكذا وزارة !؟
وكيف يثق الإنسان بمثل هكذا دولة!؟