في البدء أجد من الضروري أن نثبت النقاط التالية:
أولا/ نكتب هذه المادة، انطلاقة من قناعة مبدأيه، ترى أن قضايا الشعوب واحدة، لا يمكن أن ينظر إليها إلا بعينين وليس بعين واحدة، وإلا فأن من يتعمد النظر بعين واحدة يخون نفسه والآخرين.
ثانيا/ لو خيرت، شخصيا، بين نظام سياسي اجتماعي مدني في البحرين وغير البحرين، وبين أي نظام ديني سني أو شيعي، فسأختار، بدون أي تردد، النظام الأول.
ثالثا/ ما تشهده البحرين هذه الأيام هي، قضية وطنية داخلية، جديدة / قديمة، أي أنها لم تخلق من العدم، ولم تبتدعها أو تصدرها جهة خارجية أجنبية، لا إيران ولا غيرها: مواطنون بحرينيون يحتجون ضد النظام السياسي القائم في بلدهم، تماما مثلما يحدث منذ بداية الربيع العربي في بلدان عربية كثيرة. كل ما في الأمر أن الذين يتظاهرون في البحرين، أو أكثريتهم، يعتنقون مذهبا دينيا أسمه المذهب الشيعي.
رابعا/ لكل قضية في أي مكان في العالم، عظمت أو صغرت، أنصار خارج محيطها الداخلي، يؤيدونها ويدافعون عنها بدوافع متباينة. وحملات التضامن هذه، مهما كان نوعها وحجمها، وحتى التدخلات الدولية، ليس بإمكانها أن تخلق من العدم أي قضية داخلية، ولا تقلل ولا تزيد من عدالتها. والمواطنون البحرينيون الذين يرفعون مطالبهم، لهم من يؤيدهم خارج بلدهم.
خامسا/ الجمهورية الإسلامية الإيرانية (وهذه تسميتها الرسمية) تدافع عن المواطنين البحرينيين الذين يتظاهرون هذه الأيام، لكنها لا تفعل ذلك هكذا لوجه الله، إنما تفعل وفقا لحساباتها، وخدمة لمصالحها الإستراتيجية. إيران تطمح، شأنها شأن تركيا الأردوغانية، لأن تصبح القوة الإقليمية الأكبر. وعندما تدافع إيران عن البحرينيين الشيعة، فأنما تدافع، أولا وأخيرا (أكرر: أولا وأخيرا)، عن نفوذها، ومصالحها القومية هي.
لكن، مهما كانت (الوسيلة) التي تستخدمها الجمهورية الإسلامية الإيرانية لتبرير (الغاية) من تدخلها في البحرين، فأن ذلك لا يلغي حق الشعب البحريني في التظاهر ضد حكومته، ولا يبرر إطلاق صفة (الطائفية) على مطالب المواطنين البحرينيين، حتى لو أنهم لا يرفعون إلا شعارا واحدا يقول: نريد حكما شيعيا. هم في وطنهم، ومن حقهم أن يقولوا: نريد حكما شيعيا، نريد حكما سنيا، نريد حكما مدنيا، دينيا، نريد ملكية دستورية مقيدة، نريد كذا وكذا. هذا وطنهم وهم أحرار أن يرفعوا أي شعارات و أي مطالب. وهذا ما نشاهده هذه الأيام في مصر وفي ليبيا، واليمن، وتونس، وسوريا، والأردن. فهناك مصريون وليبيون وتونسيون ويمنيون وسوريون يطالبون بإقامة دولة دينية (سنية) متشددة وهناك أردنيون يطالبون بملكية دستورية، ولم يتهمهم أحد بالعمالة لجهة أجنبية، وبعض منهم يتلقى دعما معنويا وماليا وعسكريا من بعض الدول العربية. وإذا كان هناك بحرينيون يسعون لضم بلدهم لإيران ويعملون لصالح إيران، ويتخابرون معها، ويعرضون مصالح وطنهم للخطر، فيتوجب تقديمهم للمحاكمة، وإذا ثبتت عليهم التهمة، فيجب إنزال أشد العقوبات بحقهم، بسبب هذه الخيانة العظمى، مثل أي خائن لوطنه.
وهكذا، فأن المواطنين البحرينيين ليسوا طائفيين، عندما يتظاهرون ضد حكومة بلدهم، ويطالبون بتنفيذ إصلاحات. فلماذا يتهمون بالطائفية ؟ لماذا تتعقد الأمور وتكفهر الأجواء وتتسمم حالما تظاهر شيعة، أو وصلوا للحكم في بلدان عربية، ويتهمون بالطائفية وبالعمالة لإيران، وتنطلق الدعوات لشن حرب عليهم وإزالة البلدان التي يحكمونها من الخارطة؟
quot; مستعدون لدخول حرب حتى لو أدى ذلك إلى تقسيم العراق quot; !!!
مرة نقل رئيس التحرير السابق لصحيفة الحياة اللندنية الأستاذ جهاد الخازن، وهو يتحدث عن الوضع في البحرين والعلاقة مع إيران، في عموده الأسبوعي في الصحيفة عن وزير خارجية خليجي قوله: quot; إننا مستعدون لدخول حرب مع إيران دفاعا عن أنفسنا، ومع العراق إذا أيدت حكومته الشيعية إيران حتى لو أدى ذلك إلى تقسيم العراق.quot; (صحيفة الحياة السبت 13 آب 2011 )
لن أتحدث عن إيران، ليفعل بها الخليجيون ما يحلو لهم، دفاعا عن أنفسهم. عن العراق سأتحدث. لماذا أقحم أسم العراق في تصريح المسؤول الخليجي؟ الجواب واضح: لأن حكومته شيعية. وهل أعلنت هذه الحكومة الشيعية أنها ستساند إيران إذا أعتدت على أي دولة عربية ؟ لا، ولكن لأنها شيعية فهي مرشحة بالضرورة أن تفعل ذلك.
هل هذا الكلام له علاقة بمصلحة العرب وبوحدتهم وبأمنهم القومي، أم هو فوبيا لا توجد لها مبررات حقيقية ؟ هل من المعقول أن يمحي العرب بلدا عربيا من الخارطة لأن حكومته تؤيد بلدا آخرا، حتى لو (نقول حتى لو) أن هذه الحكومة أيدت فعلا بلدا غير عربي ؟ وهل يصدقنا أحد لو طالبنا بتحرير بلد عربي مغتصب (فلسطين)، ونحن نهدد بإزالة بلد عربي آخر من الخارطة ؟
هذا كلام خطير جدا، وهو يعطينا الحق أن نشك بأن كل ما قيل خلال العقود الماضية عن التضامن العربي وما يزال يقال حتى الآن، وكل ما ألقي من خطب، وما دبج من قرارات في مؤتمرات القمم العربية واجتماعات الجامعة العربية، وكل ما صرح به عن القضية الفلسطينية، وكل ما قيل من هجاء للاحتلال الأجنبي للعراق منذ عام 2003، هو الكلام الرسمي المعلن الذي يقوله اللسان في أوقات الرخاء والاسترخاء، أما البوح المخفي حبيس الصدور الذي يقال همسا والذي ينطلق عاليا عندما تحين أوقات الجد فهو مغاير تماما. ويبدو أن البوح جاء دوره الآن ليصبح مسموعا، وها هو يعلن بوضوح: ليقسم العراق وليذهب هو وسكانه إلى الجحيم، ما زال الشيعة هم الحاكمين.
كلام الوزير الخليجي له تفسير واحد: ما دام العراقيون الشيعة هم الذين يقودون الحكم فالعراق لم يعد بلدا عربيا. أما إيران فحشرت حشرا، مثلما تحشر هذه الأيام عند الحديث عن البحرين. فلماذا عندما نناقشه نظل ندور ونلف، خوفا من تهمة الطائفية. وإذا كان ما نفترضه غير صحيح، فلماذا لم نسمع وزيرا خليجيا يقول، مثلا: سنمحي منظمة حماس الفلسطينية من الوجود، عندما كان خالد مشعل وإسماعيل هنية يعلنان من طهران التي كانا يزورانها على انفراد، تضامنهما غير المشروط مع إيران ؟ ولماذا لم نسمع مسؤولا خليجيا يهدد بشن حرب ضد العراق والتهديد بتقسيمه لمنع صدام حسين عن التنازل عن نصف شط العرب لإيران الشاهنشاهية في اتفاقية الجزائر ؟ ولماذا لم يهدد مسؤول خليجي واحد بشن الحرب على ليبيا وتقسميها عندما كان معمر القذافي يرسل أنواع الأسلحة لإيران أثناء حربها مع العراق ؟ ولماذا لم يهدد أي مسؤول خليجي بشن الحرب ضد مصر عندما أعلن السادات أنه سيذهب لإسرائيل ويوقع معاهدة معا ؟ ولماذا لم يهدد مسؤول خليجي بإزالة قطر من الخارطة عندما رفض رئيس وزرائها الشيخ حمد بن جاسم إغلاق مكتب التمثيل التجاري الإسرائيلي وقال quot; البعض يريد أن تضحي قطر فقط فيما هم يتعاملون مع الغير (إسرائيل) quot; ؟ صحيفة الشرق الأوسط 12/01/2009
يوجد جواب واحد على هذه الأسئلة هو، أن صدام والقذافي والسادات وحمد بن جاسم ومشعل يعتبرهم النظام العربي الرسمي من صلبه، ومن حقهم أن يفعلوا ما يشاؤون، فهم السادة المؤتمنون الذين لا يمكن أن يفرطوا بمصالح الأمة، بينما الشيعة في العراق وغير العراق لقطاء، حتى لو كان الواحد منهم خرج مباشرة من صلب عدنان وقحطان، فهم العبيد المرشحون عن طريق الجينات الوراثية لخيانة أوطانهم، الذين لا يحق لهم أن يشاركوا في تقرير مصائر بلدانهم.
ما زلنا حتى الآن داخل سقيفة بني ساعدة
الأكثر خطورة هو أن قول الوزير الخليجي بشن حرب ضد العراق وتقسميه إذا أيدت الحكومة العراقية (الشيعية) إيران، لا يبدو أنه يخص المسؤولين الرسميين في الخليج وغير الخليج وحدهم وإنما يجد له أصداء داخل المجتمعات المدنية في العالم العربي. فالحديث الأثير عند نخبنا العربية المثقفة يدور هذه الأيام عن ما يسمونه (توازن الرعب الشيعي السني)، محذرين من ميلانه لصالح هذه الكفة أو تلك.
هذا أمر لا يثير الغضب، فحسب ولا الحزن فقط، إنما يثير الرثاء، أيضا، لأنه يكشف كم تشبه عقولنا نحن العرب عقول العصافير، وكم هو متجذرا ولعنا بالجزئيات من تاريخنا، وكم هو راسخا هلعنا من مواجهة ما يجري حولنا في العالم من تطورات مذهلة ومجاراة ما يحدث، وكم نحن نتقن فن تعذيب الذات. فإذا كان المسؤولون منا يهددون بإلغاء أحد بلدانهم العربية من الخارطة، فقط لأن حكامه يعتنقون المذهب الشيعي، وإذا كانت نخبنا لا تتحدث إلا عن توازن رعب مذهبي، لماذا، إذن، فعلنا ما فعلناه منذ أيام اليقظة العربية ؟ لماذا قدمنا تلك الكواكب اللامعة الذين علقهم جمال السفاح على أعواد المشانق؟ ولماذا خضنا معركة ميسلون، وأشعلنا ثورة العشرين العراقية، وتعرضنا لمجزرة بنزرت، ولماذا قدمنا مليون شهيدا جزائريا، ولماذا قاومنا الاعتداء الثلاثي على مصر، ولماذا خضنا حرب اليمن بين الجمهوريين والملكيين، ولماذا خضنا الحروب لاستعادة فلسطين؟ وماذا سنفعل بهذه الأسماء: شبلي شميل وفرح انطون ورفاعة الطهطاوي والزهاوي ولطفي السيد وبطرس البستاني وجمال الدين الأفغاني وعباس محمود العقاد وطه حسين ومحمد مهدي الجواهري وعلي عبد الرزاق والكواكبي ومحمد بشير الإبراهيمي وعبد القادر الجزائري والشيخ محمد حسين كاشف الغطاء والشيخ محمد رضا آل ياسين والشيخ عبد الكريم الجزائري وعمر المختار والشيخ العربي التبسي وعارف الشهابي ورفاقه ؟ ولماذا (استيقظنا)، أصلا، في القرن التاسع عشر ؟ ولماذا حثنا أساتذتنا أن نحفظ عن ظهر قلب أبيات قصيدة الأمير عارف الشهابي (1889-1916)، وهو يرثي شهداء العرب، ونفسه، أيضا:
تذكر- زادك الرحمن مجدا ولا تيأس ففي اليأس البلاء
تذكر عهد أندلس ومصر وبغداد وفاخر ما تشاء
تذكر شامنا والعلم فيها ليالي تحسد الأرض السماء
بني وطني دعوا هذا التراخي فلا يجدي العتاب ولا البكاء
إلى العلم الصحيح نسير سيرا حثيثا لا يلم به رخاء؟
الأسئلة الأكثر إيلاما، هي: هل كنا، طوال تلك الفترة الطويلة، quot;نسير سيرا حثيثا نحو العلم الصحيحquot;، أم كنا نراوح في مكاننا ؟ هل كانت تلك يقظة حقا؟ وهل دخلنا الحداثة فعلا، وهل كنا نضع أسس حقيقية وأصيلة لحداثة سنلج بابها يوما، مثلما فعلت الهند، مثلا، أو الصين، أو البرازيل، أو المكسيك، أو النمور الأسيوية، أم أننا دخلتا الحداثة على عجل وبثياب مستعارة وبأدوات مصنعة عند غيرنا وها هي، عندما شاخت وصدأت بمرور السنين لم نجد قطع غيار لها، فتخلينا عنها، وشرعنا باستخدام أدواتنا المصنوعة محليا، أدواتنا الشائخة إياها؟
الجواب، نعم، كانت يقظة، وإلا كيف ولماذا كتبنا مئات المؤلفات عن الحداثة، ولأي أهداف اختلطت دماء المسلمين والمسيحيين والشيعة والسنة والعرب والأكراد والبربر دفاعا عن هذه القضية أو تلك في هذا البلد العربي أو ذاك. هكذا يبدو الأمر لأول وهلة، لكن ما تكشفه الوقائع الجارية أمامنا هذه الأيام، يثبت أننا لم (نستيقظ)، كما كان يقال، وكل ما في الأمر أننا نمنا، كأصحاب الكهف، داخل سقيفة بني ساعدة، وها نحن نستيقظ شاهرين سيوفنا ذاتها، وكأن شيئا لم يحدث، لنواصل معركة الجمل.
[email protected]
التعليقات