تساؤل صادم. مع ذلك، فوجئت بالمذيع جيمس أوبريان، أحد نجوم راديو quot;إل بي سيquot; اللندني، يوجهه الى مستمعيه بنبرة متحدية: لماذا شاركت في احتفالات اليوبيل الماسي للملكة اليزابيث الثانية، ما الدافع، أي شعور انتابك وأنت تخرج من بيتك، هل هي محبة الملكة، هل هو التقدير، أو ربما كان الأمر غير مرتبط بأية مشاعر، فقط للمرح، أم أن حالنا في بريطانيا صار كما كوريا الشمالية، الناس تطيع من دون نقاش؟
رغم سنين تجاوزت الثلاثين من معايشتي لصراحة الإعلام البريطاني في تعاطيه مع شؤون مجتمعه كافة، ومنها ما يخص بعض خصوصيات الأسرة المالكة، اعترف ان التساؤل صدمني. فأيا كانت أسباب الناس للمشاركة، حتى لو يك لدى اي منهم أي سبب، وهذا مستبعد تماما، ليس من عقل بوسعه ان يقبل وضع بريطانيا وكوريا الشمالية على مستوى وعي سياسي مجتمعي واحد.
بيد انني فيما أحاول هضم تلك الصدمة، فوجئت بمستر أوبريان يعاجلني بأخرى: هل تبرر المناسبة ان يتحمل الاقتصاد البريطاني خسارة تُقَدر بحوالي ملياري استرليني نتيجة عطلة يومين خصصا للاحتفالات؟
فجأة، أحال المذيع مجرد تساؤل عاطفي، إنشائي، أو افتراضي، الى سؤال من عيار ثقيل.
مستمعا اليه، وجدت نفسي أرد عليه: أنى لك هذه المعلومة الخطيرة؟
جاءني الجواب من بعض ذوي الخبرة. خلاصة ما قالوه ان أي يوم يتعطل فيه العمل، خصوصا في المصانع، ثم في المصارف والمؤسسات المالية، يتسبب في خسارة مكلفة للنمو الاقتصادي. صحيح ان الناس تنفق في أيام العطل وتتسوق، لكن ما يدخل خزائن كبريات المخازن التجارية لا يكفي لسد العجز.
بدى الأمر مزيجاً من حالتين، احداهما تغريد مستفز يردده أحد نجوم فن الجدال الإذاعي الهادف، وثانيهما حوار جاد يثير أمراً مهماً في تأثيره على اقتصاد البلاد، حتى لو كانت المناسبة مثيرة لبهجة الناس وتخص ملكتهم.
ما لم اسمعه في برنامج أوبريان هو ان احتفالات اليوبيل الماسي كان متوقعا ان تُدر على الخزينة البريطانية ما قُدِر بحوالي مليار جنيه ينفقها سواح يزورون لندن للمناسبة، كما ان الاحتفالات شملت دول الكومنولث، وما تزال اليزابيث الثانية ملكة لعدد من الدول المستقلة، ولو بصفة رمزية.
طوال يومي الأحد والاثنين (3ـ4 حزيران)... كلما مرت بي مشاهد احتفالات بدت عفوية، رغم كل الاستعدادات المسبقة، بما فيها الأمنية طبعاً، لم يكن بوسعي مقاومة تساؤل آخر مغاير تماما لمشاكسة أوبريان الإذاعية: كم بين أنظمة العالم الثالث، ملكيات أو جمهوريات، او غيرها، يمكنها ان تشهد هكذا احتفالات من دون قلق الأمن وهاجس الاغتيالات، وكم من نجوم إذاعاتنا في عالمنا ذاك يستطيع ان يصدع بتساؤل أو سؤال جيمس أوبريان في مناسبة، تكراراً: ملكية، جمهورية، او من أي الأنظمة، من دون أن يخشى...، ماذا؟ أظن الإجابة معروفة.

***
من أنجيلا... إلى أنجيلينا

أحدث ساعي البريد جلبته المعتادة حين يدفع بضاعته عبر الباب. بعد يومي عطلة، مضافين الى السبت والأحد، توقعت كماً من الرسائل. كلا. فقط مجلة quot;فورتشنquot; ـ عدد 11 يونيو. تطالعني النسخة من غلافها الأخير. أهلا، همهمت، أما آن فراقنا، سيدتي، أنجيلينا؟
خلتها تبتسم، تجيبني، من وراء حجاب إعلاني: ليس ذنبي، إسأل لويس.
بعض التفصيل، إنما من دون نفس سبعيني ممل، أحاول: هي أنجيلينا جولي، رائعة الشاشة الفضية، سفيرة الأمم المتحدة للنيات الحسنة، تحتل الغلاف الأخير، لمجلتي quot;تايمquot; وquot;فورتشنquot;، بين عدد وآخر، مسافرة حالمة بقارب بين أدغال كمبوديا، التي كم مزقتها حروبها. هو غلاف مخصص لإعلان يخص بيت الأزياء quot;لويس فيتونquot;، الفرنسي المنشأ، العالمي الشهرة والنفوذ. إعلان جميل جمع الخضرة، الماء، والوجه الحسن، شدتني اليه، بعد كل هذه المحاسن، جملة واحدة:

A single journey can change the course of a life

حاولت ترجمتها، احترت، ثم انتهيت الى: quot;رحلة واحدة يمكنها تغيير مسار حياة بأكملهاquot;.
كم هي واقعية هذه الجملة.
هل بين بني البشر عموماً من لم تؤثر في مسار حياته/حياتها رحلة محددة، ربما لم يكن له/لها في زمانها، منطلقها، مجراها، مستقرها، ومن ثم تبعاتها، أي قرار؟
أشك. ولئن سرحت في التفاصيل وشطحت، سأُغضِب قراءً وقارئاتٍ ليس لهم، ولا لهن، على النفس السبعيني صبر وطول بال.
لذا، أودع أنجيلينا الى الغلاف الأساس، ماذا لديكِ سيدتنا quot;فورتشنquot;؟
أوه، سيدة أيضاً. انجيلا آرندتس، الرئيس التنفيذي لبيت الأزياء العالمي الشهرة أيضا، إنما البريطاني المنشأ: BURBERRY
وفي كتابة هذه بالعربية، أيضا احترت. ولن أدخل في التفاصيل، تحسباً من التطويل، فقد أطلت، اعترف، لذا الأفضل ترك تعريبها كتابةً جانبا، هنا خمس صفحات من مجلة بنفوذ quot;فورتشنquot; وتأثيرها، مفرودة لقصة غلاف بطلتها سيدة تجلس في كرسي الرئاسة التنفيذية لشركة عالمية.
طبعاً، أنجيلا ليست فريدة زمانها، كثيرات مثلها، وبينهن نساء من عالمنا رقم 3، الذي يحاول بعضنا إعادته الى الدرجة 300 تحت الأرض. مواجهة هذا البعض بالعلم، المعرفة، والنهل من التقنية المتطورة في كل لحظة، هو في مقدمة سبل مقاومة الغرق في مستنقعات طائفية يوسع البعض دوائر انتشار بعضوضها بسمومه القاتلة.

***
عودة إلى .. مسؤولية المثقف

أعادني مقال الاستاذ عبد القادر الجنابي، مدير التحرير في quot;إيلافquot;، بشأن موقف الشاعر أدونيس من الثورة السورية، الى مسؤولية المثقف العربي، راهناً، سابقاً، ومستقبلاُ. والأخيرة هذه، في تقديري، هي الأكثر أهمية.
مراجعة ما جرى بالأمسين، البعيد والقريب، ضرورية من دون شك، كما أشار عدد من كتاب quot;إيلافquot;، وشاركت بدوري في النقاش. إنما، منطلقين من مراجعة الماضي، وتمحيص الراهن، المطلوب ضمان ألا يكرر الجيل الجديد من مبدعينا، في أي من حقول الفكر، الثقافة، والإعلام، أخطاء ـ بل خطاياـ بعضنا، ولست أزكي ذاتي على أحد إطلاقاً، لجهة المشاركة في مسؤولية تبرير أخطاء وخطايا الطواغيت، ومن ثم تراجع أعمار الحريات في مجتمعاتنا، والاكتفاء بترديد ما اعتدناه، على نحو أن quot;أعمار الطغاة قصيرة وإن طالتquot;، كيف هذا؟ أيكفي تركهم يكتمون على أنفاسنا عقوداً من الدهر، ونتعلل بأن أنفاسهم في النهاية خُمِدَتْ، مهما حَكمت؟
دعونا نأمل أن الغد أفضل.
وعذراً، للإطالة.