مقتطفات من مفكرتي... 24 و 25 نيسان
الأربعاء 25 إبريل2012
صِدقاً أحببنا بعضهم، ومن القلب. لمَ لا. كنا بهم مُصدقين، ولِما طالعونا به متشوقين. هم من الثكنات طلعوا، لا نعرف من أين جاؤوا، لكن ما به أتوا من قول وخطاب، وبريق شعار، أوقد جذوة من تعلمنا تاريخه تلاميذَ في مدارسنا، فأحببناه. كثيرون منا، على الأقل بين جيلنا، رأوا شيئا من الشيخ في ضابط شاب اختار، أو اختير له، لا أدري، ان يكون عصر نهار إحياء ذكرى استشهاد عمر المختار (16 يناير) موعد أول ظهورعلني له أمام الناس، بخطاب على الملأ يلقيه في بنغازي.
كيف لا يبهرني ذلك ويشدني، أنا المصبح الممسي، طفلا وصبيا، فتى وتلميذا، ثم متظاهراً، قوميا، وحدويا، عروبيا، في quot;شانرليزيهquot; مدينة غزة، الممسك لها، يحضنها من رأس دَحْلَة تل السَكَنْ، حيث مقر دار quot;أخبار فلسطينquot;، المطل على حي الشجاعية، ومدرسة الهاشمية، مرورا بساحة التاكسيات، فالمستشفى الانكليزي، المسمى بالمعمداني، ثم سوق فْراسْ، تقابله الفواخير، وعلى ربوة منها عيادة الدكتور حيدر عبد الشافي، وشقيقه مصطفى، وصولا الى رصيف ميناء قديم من مخلفات الانتداب البريطاني، قائم على أقدام يكسوها الصدأ، تداعب موج المتوسط، كراسي كازينو هويدي ليست بعيدة عن مخيم الشاطيء، وأزقته المعطرة بنسمات المجاري المفتوحة، حيث حلقات وخلايا حركية، قومية، عربية، كانت سراً تلتئم، وهذه أصابع كانت دون السادسة عشرة، وتدون الآن من لندن بعدما تجاوزت الستين، هي ايضا كانت آنذاك حاضرة بين الحاضرين، باحثةً مع الباحثين عن طريق عودة الى فلسطين. ذاك quot;الشانزيليزيهquot; الغزاوي المُتَخَيل، له إسمه الأصيل: شارع عمر المختار.
ثمة من أحس بالخدعة، من أول الحكاية. هناك من استعصى عليه الإدراك المُبَكر، فاحتاج لبعض الوقت، بضع سنين. مُدَوِن هذه الكلمات، من ذلك البعض، ممن اكتشف انه صدَق كذبة أحبَ هو نفسه أن يصدقها، ربما أملا، أو وهما، لكنه لما تبين له الأبيض من الأسود، كاد ـ كما في حالتي وغيري كثيرين ـ أن يدفع الثمن إزهاقا لروحه، ولأولاده تيتيما، هنا في لندن.
حصل هذا في زمن يبدو الآن كأنه بعيد، لكن 11 إبريل 1980 (يوم اغتيال محمد مصطفى رمضان) ما يزال نابضا في الذاكرة بحيوية 11 نيسان الجاري، رغم ان خلايا الدماغ، عندي وكثيرين غيري، تكاد تتفجر بتكاثر الكذب البواح، واجتراء تزيين التزوير المفضوح.
أليس ثمة من يسائلنا، نحن حملة القلم، أهل الإعلام، الفكر والثقافة، عما طوال السنين المنصرمة فعلنا؟
***
أحكي عن تجربتي كَمِثال عاشه كثيرون غيري. وما ليبيا، ما جرى فيها منذ انقلاب بعض ضباطها واستيلائهم على حكم شعبها، سوى حالة سبقتها وتلتها حالات. تطلع جيلي للتحرر من استعمار الاجنبي، فحكمنا من سلبوا أحلامنا، سحقوا تطلعاتنا، وبإسم حريتنا ذاتها صادروا كل الحريات إلا حرية النفخ في تضخيم زعاماتهم، كثيرون منا، نحن معاشر الإعلاميين، أنا منهم، في الفخ وقعنا، على كثير من قول الباطل أغمضنا أعيننا، وعن كلمة الحق تقال في وقتها خَرِسنا، ثم إن بيننا من مضى أبعد، فأنشا لطغاة الحرية منابر إعلامية، بين صحف ومجلات، مراكز أبحاث، إذاعات وتلفزيونات، تنوعت وتعددت، هنا وهناك، في كل القارات.
أيعني هذا أن كل ما فات، كل لحظة فيه ومنه، كانت خطيئة توجب ندما وتوبة، وهل أن كل الأنظمة غير العسكرية كانت أفضل، وما تزال؟
ليس يعقلُ، ولا هو بقلبْ، وكلاهما بالآخر مُتَصلْ، من عاش تجربتي هذه، ثم يأتى الآن يريد منها أن يتنصل، فيرميها بكل ما يُتاح له من مفردات الشيطنة، ولعنات الملائكة.
أبداً، لست نادماً.
محزون؟ نعم.
وتكراراً، حتى لا أنسى، أظل كلما تذكرت دائم التذكير لنفسي، لست وحدي، بل إن حَزَني ذاق مرارته كثيرون، وما يزالون، وربما اكثر مني بكثير، إن هنا وهناك، في منافي الاغتراب، أو في أوطان اغتربت فيها أرواح أهلها، من ضفاف نواكشوط إلى حدائق مسقط، لا زرت هذه ولا تلك، للأسف، لكن بوسعي تخيل ان فيهما، وفي ما بينهما من قرى، مدن، وأرياف، محزونون كما أنا كثيرون، وربما أكثر، إعلاميين كانوا أو ما كانوا، من عِلية القوم هم، أو من البسطاء الطيبين، كم بطشت بنا الصدمات فما رَحمت، وكم
شكسبير... 448 عاماً أمس، 23 ابريل/ نيسان، اليوم، غداً، يبقى السيد المولود عام 1564 في Stratford-upon-Avon حاضرا، ومتوهجاً دائما، في العالم كله. من قال ان قروية الكون، معرفةً، فكراً، ثقافة، وإبداعاً، بدأت مع الشبكة العنكبوتية، ولم تبدأ منذ قرون، مع عظماء في قامة وِليام شكسبير. لفتني كلام قاله مخرج مسرح من العراق، عفواً... لم احفظ إسمه، خلال نشرة أخبارquot;بي بي سيquot; الليلة قبل الماضية، قال ما خلاصته: quot;أحس انني اعرف شكسبير، قابلته، قرأت معه، لعبت وإياهquot;. كلام جميل. لفتني ايضا المراسل من ليتوانيا، قال: كثيرون هنا يعطون لقب شكسبير، إسماً لأولادهم، فيكون إسم الصبي شكسبير كذا وكذا. ذكرني هذا، مع فارق المجال طبعا، بشيء من ظاهرة ستينيات الثورات العربية، عندما كان إسم جيفارا يُعطى لأطفال بعض الرفاق، فيكون إسم الصبي: جيفارا محمد، أو عبد الرحمن، أو عبد الخالق، وهكذا. |
صمتت أقلامنا، وفي الحلوق حُبِست ألسنتنا، إذ من تحت أقدامنا زُلزِلت أرضٌ، وفي مجارينا سُكِبَت دماء بعض أهلنا، فما جرت بحقيقة الإخْبارِ ولا بموضوعية التحليلات على الكومبيوترات أصابعنا، بل جرى كل منا، يصور بكاميرا غير التي يصور بها منافسه، وكأن الضحية ليست واحدة، وكأنما الموت هنا: قتلا، تعذيبا، ألما، جوعا، قهرا، ذُلا، مختلف عنه هناك، كأنما الإنسان ليس هو بإنسان، إلا حين الحاكم بأمره يشاء، كأني بروح الصبي والصبية، العجوز والشيخ، ليست روحا إلا إذا أحب هذا السلطان أو ذاك، سواء العمامة ارتدى، او الطربوش، خوذة، قبعة، او الشماخ، ما الفرق، ماذا يتغير، ثم تسألني: وهل الأنظمة غير العسكرية كانت أفضل، وما تزال؟
الواقع أن الكل في همِ الأخطاء وغمِ الخطايا ليسوا فقط أهل شرق، بل وغرب، شمال وجنوب، أيضا. إنما ليسوا سواء. بيد أن quot;إنماquot; هذه لا تعجب كثيرين. يقولون: لِمَ الاستثناء. تقول: لأن واقع الحال يفرض تمييز حالة عن حالة، حتى إذا ما رياح التغيير هبت، تسيرها قيادات واعية بما تريد، فلا تفقد البوصلة، ولا تضل الطريق، خصوصا إذا هي زمامَها أسلمت، لمن يعتبرون أنهم للجماهير مرشدون، موجهون، معلمون وإعلاميون.
***
لا أعرف كيف أترجم عبارة انكليزية موجزة، لكنها تُغني عن كثير:
Here we go again
لنحك بالعامية: quot;هَمْ رجعنا مرة أخرى... عادت حليمةلعادتهاالقديمة... فالج لا تعالج... quot;
لئن وقع هذا، فإنه واقع لأن هذه الجماهير التي، منذ نُفِخَت في عروقها رياح ثورات التغيير، فهتفت: quot;الشعب يريد إسقاط النظامquot;، لم يخطر ببالها، أو بال من يكتب لها هتافاتها ـ ضمن مهام الثورة، طبعاـ ان تهتف أيضا: الشعب يريد محاسبة صحافة وصحافيي، إعلام وإعلاميي، فكر ومفكري، ثقافة ومثقفي، أنظمة سقطت، زعامات هربت، أو انقبرت.
هل يكفي ان يغسل أحدنا يديه من كامل المسؤولية، مجرد مِثال، بإصدار كتاب ضد طاغية، حتى لو فيه شمل نفسه بشيء من الانتقاد. ألا يصيب النخب الإعلامية والثقافية، في العالم العربي كله، أي نصيب من المسؤولية؟
مُقَدَر جهد كل مجتهد يسلط أي ضوء على عهود الطواغيت، إنما ذلك يجب ألا يلغي مسؤولية، او ينفي حقيقة، أننا، لنقل معظمنا حتى لا نقع في خطأ التعميم، شاركنا في صنع ديكتاتوريات عدة وتسويق طغيانها، بصرف النظر عن إسم الديكتاتورية وعنوانها، شكلها وشعارها، مكانها وزمانها، وكثيرون ما يزالون من دون ان، يرف لهن ولهم جِفنْ.
كيف شاركنا، مضطرين أم باختيارنا، سؤال جائز وطبيعي، إنما لا يلغي اننا ـ في أغلبيتنا ـ كتبنا، أنشدنا، بحثنا، نَظَرنا، للندوات سِراعا ركضنا، للمؤتمرات طِرنا، إلى عكاظات توافدنا، وللمهرجانات تهادينا، بالشعر لهم تبتلنا، بالرواية عنهم روينا، بالريشة طلتهم لَونا، وجُدْرانَ بيضاء بها طلينا، من أعالي الميادين أطلوا علينا، أصنامنا تلوح لنا، ضاحكة علينا، فابتهجنا، ومن شدة الفرح... بكينا، وما تذكرنا، على سبيل المثال، شباناً وصبايا، لنا، أولاد وبنات حارتنا، زقاقنا، زنقتنا، أيا كان الإسم والعنوان، جيرة، ديرة، أو عشيرة، فتية وفتيان لنا خلف جدران ظلمات السجون وظلم السجان، من تخوم أفريقيا إلى تماسٍ مع آسيا، وما بينهما من وديان، صحارى، وخلجان، صراخ مكتوم، دمع محبوس، أنين مكظوم، ما تذكرنا طل الملوحي (أسيرة سجون بشار الأسد)، مثالاً، ومن ماثلها، شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، في الألم والعذابات، أين كنا، نحن، بِمَ كان يَسْطُرُ القلمُ، ومِنْ أية دواية حبر، أو أحبار، يغبُ، ألِمداواة غُرورٍ وإرضاء غَرورٍ، أم للتدواي بما يجود به الوالي؟
إن من حق جمهور لكم، يقرأ ويعي، يسمع ويفهم، جمهور طالما تَحَمل من إعلامنا كما تحمل طاووسية طواغيتنا وقسوتهم، أن يسمع ويقرأ اعترافات نجوم إعلامية، تصبحه وتمسيه، من اختلاف مشاربها ونبعها تسقيه، منهم طباخون في مطابخ الإعلام محترفون، وبينهم مهرجون مدعون، من حق الجمهور ان ننزل له من أبراجنا، عاجية ثرية، أو صفيحية معترة، طالما انه جمهور تكرم علينا وصبر، فما ـ حتى الآن ـ أنزلنا، ولا عن كراسي رئاسات التحرير والتلفزيونات والاذاعات والوكالات أزاحنا، من حقه ان نتواضع ونعترف له، ونعتذر من ابراجنا أننا لكراسي الحكام، وأصنامها، بالأشعارغنينا، بالكلمة دَبكنا، وبالتشييد أشدنا، للنظريات نَظرنا وشرحنا، ثم إننا لطاووسية القيادات انقدنا، ولتميزاتها روجنا، أونعجب بعد ذلك إن هم، المخادعون الناس وأنفسهم، صدقوا ما أسبغنا عليهم من عظيم الصفات ما أدهشهم، فما زادهم هذا إلا... استكبارا.
أطلنا، سامحونا، زوار quot;داربكرquot;. إنما، حديث عشيرتي في صنعة الصِحافة وفتنتها، خصوصا اللندنية منها ـ أليست هي وجه الصحارة، كما تصورنا، وصدقنا أنفسنا نحن ايضاـ مايزال يطول، لذا طولوا بالكم علينا، شوية، شوية!
سركوزي بعد برلسكوني؟
ربما. الحسم ينتظر نتائج الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة الفرنسية. إنما ما حُسم فعلا، أن فرانسوا هولاند حقق ما لم يتحقق منذ خمسين سنة، أن يذهب الجالس في الأليزيه الى الجولة الثانية، مهزوما في الأولى. إذا انتهى سركوزي إلى مصير قيصر روما، برلسكوني، سواء بفعل أزمة اليورو، ومجمل الوضع الاقتصادي، فضلا عن الشأن الخارجي، فلا أسف عليه، من وجهة نظر كثيرين، أنا منهم. إنما نأمل، ألا يبدأ كثيرون، من الآن أيضا، في تطريز توقعات أن يكون هولاند خيراً من سركوزي في الشأن العربي. بلادهم أولا.
مدونة الكاتب: www.darbakir.com
التعليقات