في أوائل يناير 2010 كان كتابي quot;البرادعي وحلم الثورة الخضراءquot; قد صدر، وقامت حينها بالبلاد ضجة على أساس الظن باعتقال مباحث أمن الدولة لناشره، وقد كان العنوان الأصلي للكتاب هو quot;مصر وحلم الثورة الخضراءquot;، حلمت وتنبأت فيه quot;بثورة خضراءquot; تنقل مصر من التخلف النسبي إلى الحداثة والحرية، وبعدها بعام قامت ثورة تصورتها هي تلك التي حلمت بها، واحتجت إلى عام آخر لأدرك أن ما حدث إن كان ثورة فهو quot;ثورة سوداءquot; كلون الأعلام التي يرفعها أحباء بن لادن ومريدوه في ميادين التحرير، لتكون الثورة هكذا سعياً للعودة بمصر لعصور الجهالة والبدائية الوحشية.
مع ذلك لا ينبغي أن نفقد الأمل في quot;حلم الثورة الخضراءquot;، سواء ظهرت نجوم جديدة تلتف حولها الجماهير التواقه للحرية والحداثة والعيش الكريم، أو كان أيقونتها البرادعي الجميل المستنير الذي يفتقد لمؤهلات القيادة والحصافة السياسية، أو كان ذلك النجم الذي سطع في سماء مصر عبر انتخابات الرئاسة، ذلك أنني أعتقد أن شجاعة وصلابة وإخلاص أحمد شفيق لن تجعله ينسحب من الساحة السياسية، وقد تحول إلى رمز وأيقونة للدفاع عن تقدم مصر وحداثتها وحريتها في مواجهة المد الصحراوي الظلامي الذي اجتاحها، فعندي أن توجهه الحداثي والعملي الواقعي ونزعته للتنمية والسلام والانفتاح على العالم تعوض ما قد يفتقده من خبرة سياسية لا يشترط في نظام ديموقراطي أن تكون شاملة، إذ يفترض أن تلعب المؤسسات ومراكز صناعة القرار الدور الأكبر في أي دولة حديثة، كما أن أحمد شفيق يتمتع بشخصية طيار مقاتل، فقد خرج بطائرته في ظروف جوية من أصعب ما يكون، وأدار بعزيمة فولاذية وبأبسط الإمكانيات أنجح وأشرف معركة انتخابية عرفتها مصر.
أيضاً نرجح احمد شفيق إذا ما صح أنه وفقاً لنظريات المؤامرة الرائجة (والعياذ بالله) في مصر، هو من حاز بالفعل ثقة الغالبية من الشعب المصري، ليكون هو الفائز القانوني وفق أصوات الناس بانتخابات الرئاسة، لكن كما يشاع الآن فإن المجلس العسكري قد أنجح مرشح الإخوان المسلمين وفقاً لدواع خطة طريق سياسية يواجه المجلس العسكري بها quot;المغول والتتار والبرابرة على حد تعبيرquot; quot;نزار قبانيquot;، وقد يكون هذا بالفعل في صالح مصر سياسياً، وإن لم يكن كذلك من حيث وجوب سيادة القانون، فإعلان فوز أحمد شفيق الذي هو وفقاً لهذه الرواية quot;الرئيس الشرعيquot; كان يتطلب التصدي لهؤلاء الذين استطاع الإخوان تجييشهم في ميدان التحرير وكافة المدن المصرية باسم حماية مكاسب quot;الثورة الإسلاميةquot; أو quot;الثورة المستمرةquot; على حد تعبير تلك الكائنات الثورية اللطيفة الظريفة التي تلعب بالنار الآن وتهدد بإحراق مصر، في حين تضمنت الصفقة التي يتحدثون عنها فوز محمد مرسي مقابل quot;قصقصة ريشquot; التيار الديني في السلطة، بحل مجلس الشعب وصدور الإعلان الدستوري المكمل وتحكم المجلس العسكري عن طريق المحكمة الدستورية العليا في تشكيل الجمعية التأسيسية للدستور، بما يضمن دستوراً لدولة حرة حديثة، وهذه بلاشك صفقة دسمة من منظور القوى المدنية والحداثية، ونحن بالطبع لا نورد هنا هذا الكلام من قبيل التيقن منه أو لتأكيده، وإنما لمجرد عرض وجهة نظر شائعة بالساحة ولا تخلو من معقولية ووجاهة وعديد من الشواهد تقود إليها.
مع ذلك هناك احتمالات أخرى لرؤية وتفسير ما يجري منذ قيام الثورة، فمثلاً يمكنك هزيمة منافسك البارع في الشطرنج إذا كنت بارعاً في اللعبة ووضع الخطط ورسم التحركات، أو كنت غشيماً وتحرك قطعك كيفما اتفق، فتربك تحركاتك العشوائية منافسك وتفوز أنت، المهم أنه في جميع الأحوال النتيجة الآن 10/ صفر لصالح المجلس العسكري في مواجهة الجميع، ولا أريد أن أخفي على القارئ الكريم أنني شخصياً لا أميل لافتراض مهارة بالغة إلى هذا الحد فيمن يشير على المجلس العسكري، وربما كان الأرجح هو الافتراض الثاني، عملاً بالمثل المصري القائل quot;بتيجي مع العمي طاباتquot; بمعنى quot;طيبةquot; تقريباً!!
نعم خرجت وربما تعود مصر التي في خاطري وفي دمي، فالأكيد أن الشعب المصري قد انكفأ على وجهه، أما إن كان سيستطيع القيام والوقوف على قدمية بعد ذلك أم لا ومتى فذلك أمر آخر. . كمبوديا أيضاً حكمتها لبعض الوقت عصابة إجرامية هي quot;الخمير الحمرquot;، الطريف الآن أن التهاني تتوالى على مصر من الخارج، لنكون بهذا أول شعب تهنئه الشعوب على خيبته، أو يتلقى التهاني بدلاً من التعازي الحارة والقلبية!!. . لا بأس في أن يقابل العالم كله حكامنا الجدد ويتعرف عليهم وعلينا، فلقد لقد ظللنا نغني متوجهين إلى الله قائلين quot;على قد نيتنا اديناquot;، إلى أن استجاب لدعائنا وأعطانا مرسي والإخوان، وعموماً لست أدري حقيقة إن كانت السيارة المصرية 44x وستتمكن من الخروج من وحل هذا المستنقع، أو أنها ستظل غارزة هكذا طويلاً أو إلى الأبد!!
لا أرى موجباً للحيرة والاهتمام المبالغ فيه من الكائنات المسماة ثورية أمام من يحلف محمد مرسي يمين رئاسة الجمهورية، فقد سبق وحلف أمام المرشد على المصحف والمسدس، وهذا كاف جداً فيما أظن، خاصة مع انعدام الثقة في أي قسم على احترام الدستور والقانون ورعاية مصالح الشعب من قبل رجل نذر نفسه لخدمة الجماعة وتبني فكرها المقدس، ويكون من الطبيعي ألا يعتد من هو مثلي بحرف واحد مما قاله وسيقوله مرسي في خطبه، فهي كمواضيع الإنشاء التي يكتبها التلاميذ ولا يعني كاتبها حقيقة ما يكتب، وإنما يركز على استكمال عناصر الموضوع وتجميله بلاغياً، لذا علينا انتظار السلوك والقرارات العملية لنحدد ملامح حكم الإخوان وليس حكم محمد مرسي، كما أنني لابد وأن أعبر عن أسفي لأنني لن أستطيع أن آمل في ذرة عقلانية أو إخلاص للوطن وليس للجماعة وأفكارها لدى أي عضو في جماعة الإخوان المسلمين وتوابعها، فالتفاؤل دون مبررات واقعية استعباط أو بلادة وغباء.
كنت أحب لو أمكنني كتابة كلام جميل يبعث الأمل في النفوس ويهدئ الروع لدى قطاعات عريضة من الشعب المصري، وأن أؤكد لهم أن مصر لن تموت، وأننا قادرون على استعادتها من بين أنياب الذئاب، لكنني لا أحب أن أكون مخادعاً أو رومانسياً حالماً، فالحقيقة التي نراها ولا نرى حتى الآن على الأقل غيرها أن مصر ذهبت مع الريح، ولن تعود إن عادت إلا في زمن أجيال بعيدة قادمة. . كثير من الأنقياء والكائنات المسماة ثورية لا يعرفون طبيعة شخصية وعقلية العقائديين، سواء كانوا ماركسيين أو إسلاميين أو ما شابه، فأمثال هؤلاء لا ينظرون ولا يعتدون بالواقع والمصالح وما شابه، فهم مبرمجون ولمرة واحدة (كالأقراص المدمجة) على مقولات ما يعتقدون فيه، ولن يقتنعوا أو يتحركوا إلا إلى حيث ما يعتقدون أن فيه تحقيق تلك المقولات.
نشهد الآن وسنشهد كائنات حية تزحف على بطونها، لا لتحقيق توافق مجتمعي بين الفرقاء، ولكن لنوال الرضا السامي ممن اختطفوا البلاد، فمازالت هناك مثلاً كائنات حية على القنوات الفضائية تدعي الثورية وتعترض على الإعلان الدستوري المكمل واحتمال إشراف المحكمة الدستورية على تشكيل لجنة الدستور، وتريد تسليم رقابنا كاملة لإخوان الخراب، هذا بخلاف طوابير الذي سيصطفون في المقطم أما مقر الجماعة (التي كانت محظورة) لتقديم فروض الولاء والطاعة، لكن إذا كانت quot;ثورتنا الخضراءquot; قد اصطبغت باللون الأسود، فإن هذا لا يعني أن نفقد تماماً الأمل في عودة اللون الأخضر لكل ربوع وادي النيل يوماً ما، حتى وإن بدا ذلك اليوم الآن بعيداً أو مستحيلاً.
الولايات المتحدة- نيوجرسي
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات