نهار رابع أيام تموز/ يوليو يؤرخ ضمن الذاكرة العربية، إعلامياً، ومن ثَمّ سياسياً، لحدثٍ بالغ الأهمية. قبل 34 سنة من نهارنا هذا، شَهِدَ صباح الثلاثاء 4/7/1978 بدء صدور quot;الشرق الأوسطquot; من لندن. جريدة يومية لغتها عربية تصدر من عاصمة بريطانيا. نقطة على السطر، ربما تكفي جملة كهذه لتفي الأمر حقه.
بالتأكيد كلا، ولهذا النفي سببان رئيسيان:
أولهما أن لندن ليست بالعاصمة العادية، بل الأهم اقتصاديا في أوروبا، وهي الثالثة عالمياً، بعد واشنطن وموسكو، إن لجهة الدور الفعلي، أو فقط عبر الحضور (quot;بريستيجquot;) السياسي المؤثر. ومثلما ان هناك ثمة عنوان وحيد دولياً، إذا عطس نزلت بأسواق قارات الدنيا نزلات البرد، ذاك الـ quot;وول ستريتquot; المتمدد محتضناً ناطحات سحاب عن اليمين وعن الشمال، غير بعيد عن تمثال للحرية عبر المحيط من شواطىء فرنسا، أم الحريات، إلى نيويورك عاصمة الرأسمالية، كذلك الحال، هذه لندن، عاصمة أم الديموقراطيات، حيث العنوان الوحيد المتباهي بعناوين صحافته على العالم كله، فما من quot;مانشيتquot; تطلع به إحدى رصينات quot;فليت ستريتquot;، لا غانياته، يكون له بعده الدولي، سياسيا أو اقتصادياً، إلا ويكون له رجع صدى عبر عواصم الكون كله. ولم يك quot;غوف سكويرquot;، مقر صيحة ديك quot;الشرق الأوسطquot; بعيداً عن مقار اولئك الوقورات... حسناً، ولا لعوبات quot;التابلويدquot; ايضا.
ثاني السببين، يخص أصحاب الإصدار، من همْ، من أين أتوا، من يمثلون، ماذا يريدون، ما رسالتهم؟
يكفي التساؤل ليفي الأمر حقه من الفضول. نسأل ونمضي. كلا، بالتأكيد كلا. ولهذا النفي سببه أيضا، إنما بعد توضيح يستوجبه سياق زمني للمقالة.
لندن، بكل سمات تميزها المشار اليها قبل قليل، هي نفسها التي شهدت صدور صحيفة يومية، وبلغة عربية أيضا، سبقت quot;الشرق الأوسطquot;، بثلاثة عشر شهراً. كان ذلك صباح الاربعاء، أول حزيران/يونيو 1977، نهار صدور جريدة quot;العربquot;، هي المستحقة، زمنياً، صفة quot;أولquot; صحيفة يومية عربية، إنما المتراجعة عن المرتبة الأولى لمن سبقها مالاً وولداً، بمعنى فارق القدرة المالية التي توفرت لدى quot;الشرق الأوسطquot; فهيأت لها امكانات تحريرية ليست فقط عجزت عنها quot;العربquot;، بل بسبب تواضع وضعها المالي تسربت من بين يديها النحيفتين إلى ذراعي quot;ضرتهاquot; المفتولين، خبرات شابة وُلِدت تجربتها الصحافية إن تحريراً أو إخراجاً، وحتى تنضيد الحروف وتصحيح البروفات، في الطابق الخامس من quot;انترناشونال هاوسquot; في quot;فيرفيلد ويستquot;.
عنوان المكان نفسه كان المؤشر الأول في فروق قدرات فرّقت، أو قل إنها ميّزت بين جريدتين عربيتين يوميتين اتخذتا من لندن مقراً ومستقراً.
أن يأتي السيدان هشام ومحمد علي حافظ الى بامكانية تتيح لهما إطلاق حلمهما الصحافي الدولي من مقر في quot;غَفْ سكويرquot; بعبق رائحة تاريخية مميزة ليست بعيدة عن quot;فليت ستريتquot;، كان كافياً لأن أرى رنين الأسى ممزوجا بتواضع الكبار، يكسو وجه رشاد بشير الهوني، ويسبق كلماته إذ يقول لي، واقفا يطل من النافذة على سوق الاثنين الشعبي بكنغستون، ما مضمونه: من وين نقدر ننافس الجماعة، صحّ (هنيئاً) ليهم، قادرين على دفع الإيجار غادي (هناك)... باهي هذه بروحها (بحد ذاتها) بداية قوية، وتوا (قريبا) تشوف جماعتهم ما يسيبوهم، صحّ ليهم، ليش لا؟
نعم، لماذا لا؟
رغم كل اختلافات الراي، سياسيا أو مهنياً، ثمة قاسم مشترك يلتقي عنده هشام ومحمد علي حافظ مع رشاد بشير الهوني وأحمد الصالحين الهوني، إنه ـ ببساطة شديدة ـ الانتماء للبلد.
من قفص الاتهام في ما سماه الضابط معمر القذافي quot;محكمة الشعبquot;، ابتسم رشاد الهوني بغضب وهو يتساءل في رده على سؤال ضابط يُدعى عمر المحيشي، يدعي صفة quot;المُدعي العامquot;، ما مضمونه: ماذا قلت في سؤالك لي، لمن الدَين؟
أجاب المحيشي: للمصرف الليبي المركزي.
رشاد: أين المشكلة، دار quot;الحقيقةquot; مستدينة 300 ألف جنيه ليبي، والدائن هو البنك المركزي الليبي، لا العملة اجنبية ولا الدائن غريب، انا مستدين من بلدي.
باستحضار ذلك المشهد اردت تسليط بعض ضوء على شخصية رئيس تحرير جريدة quot;العربquot;، واضع أساسها الصحافي (يتردد منذ أيام، في بعض الأوساط، ان quot;العربquot; على وشك الصدور بإخراج جديد ضمن تجديد في طاقمها الإداري والتحريري) وشريك ابن عمه الحاج احمد الصالحين الهوني (آخر وزير للإعلام في عهد الملك ادريس السنوسي) في تأسيس quot;شركة العرب العالميةquot;، كلاهما ـ الصالحين ورشاد ـ كان يتمنى لو أن ليبيا، بلدهما، يسّرت لهما ما احتاجته quot;العربquot;، توزيعاً وإعلاناً، كما تيسّر الأمر، سعودياً، للشركة السعودية للأبحاث والتسويق بعد صدور quot;الشرق الأوسطquot;.
ليست في الأمر غضاضة، ولا فيه ما يُحرج. الصحافة صناعة. المنتوج يُباع في سوق. المسألة بسيطة. إذا وفرت لك بلدك بعض امكاناتك، ضمن قواعد لعبة السوق نفسها، هل ثمة مشكلة؟
كلا، إلا حين تتداخل الأدوار وتتشابك. السياسي مع الإعلامي، وبالعكس. الإدارة الذكية، على الضفتين، تعرف فن المناورة الناعمة، فتعمل على توسيع هامشها، لأن ضيقه متسبب باحتكاك، لا محالة.
لست مؤهلاً للحديث في هذا الجانب بما يخص quot;الشرق الأوسطquot;، له سادته وأساتذته. إنما بإمكاني استحضار تجربتي في quot;العربquot; إذ شهدت بدايات صدور الصحيفة بحلم استقلال الإعلامي عن السياسي، ثم عشت لحظات توديعه بتوديع رشاد الهوني له أواخر سنة 1980.
لقد اثبت تتابع الأحداث، ما بين صيف 1978 وحتى صيفنا هذا، أن تأسيس الشركة السعودية للأبحاث والتسويق، قبل اربعة وثلاثين عاما، هنا في عاصمة صحافية عالمية بوزن لندن، وبانطلاقة بقوة quot;الشرق الأوسطquot;، جسّدَ رؤية حملت قدراً واضحا من عبقرية التفكير المستقبلي، ثم أتى تطوير الشركة الى مجموعة بقيادة الأمير الراحل أحمد بن سلمان بن عبد العزيز، ليبعزز حقيقة تَصَدُر quot;الشرق الأوسطquot; المشهد الإعلامي العربي دولياً، إذ غطى توسع شبكتها التحريرية عالماً ممتداً من ضفاف الأطلسي إلى شطآن المياه الدافئة، وطغى خبرها، لسنوات عدة، على ما تنشره الصحافة المحلية من أخبار، رغم تميزه وأهميته، وكذلك الحال في شأن المقالة، المقابلة، والصورة، لسبب بسيط، إنها quot;الشرق الأوسطquot;، ليس فقط في ما يخص جمهورها العادي، إنما خصوصا في يخص كبار القوم، على امتداد العالم العربي.
في محاولة للتعرف أكثر على تاريخ جريدة سِعدتُ بتجربة المشاركة بنجاحاتها بضع سنوات من عمرها، وشقيتُ أيضاً، فما من سعادة مجانية، حاولت أن أقرأ عنها أكثر أونلاين، مذ خطرت لي كتابة هذه المقالة قبل بضعة أيام. للأسف لم تتكرم الانترنت عليّ بكثير جديد، حتى موقع السيد هشام علي حافظ، ضنين في ما يسرده من قصة التأسيس ولحظاتها الأولى. حتى بعض التساؤلات الطريفة، جميلٌ ان تكون لها اجابات، إذا خطرت على بال أحد، كما لفي حالتي، تساءلت: لماذا بدء الصدور نهار quot;الثلاثاءquot; وهو ليس بدء الأسبوع اللندني؟ أتتني الإجابة من صديق عزيز ظهر الاثنين الماضي (لست في حلٍ لذكر اسمه، لم استأذنه) إذ كنا نتناول غداءً خفيفاً، وهو كان من المحترقة أعصابهم داخل مطبخ الإطلاق، ملخص الإجابة ان شخصية سعودية كبيرة القدر والمسؤولية كانت تزور لندن ذاك quot;الويك إندquot;، عشية مغادرتها، مساء الأحد، أعطت تلك الشخصية مباركتها بالإصدار، فكان مساء الاثنين ساعة الصفر، وتوالت بعدها، عبر سنوات من الكد والجَهد، أصفارٌ تجاور أرقامَ النجاح.
حديث ذكرى إصدار quot;الشرق الأوسطquot;، مناسبة أيضا تُذكّر بضرورة تأريخ نشوء الصحافة العربيىة في لندن وتطورها، تأريخاً يعتمد توثيق التأسيس، ويعطي لكل ذي حق حقه، فضلاً عن أهمية تحليل الظرف السياسي المرافق لنشوء كل منبر صحافي بدأ المشوار من لندن، ثم كيف تتطور، أو تراجع، وأين هو الآن. هذه مسؤولية ليست لشخص بعينه، وليس ممكناً ان تفيها حقها كاملاً، كتب مذكرات او ذكريات، أياً كان أصحابها، بمن في ذلك شخصي، لو استطعت فكتبت، ثم مع كل التقدير الواجِبْ والمٌستَحقْ لكل من كتب أو سيكتب، فالمسؤولية تحتاج جهداً أكاديميا جماعياً يستمع المشاركون فيه الى شهادات من يستمعون اليهم، يطالبونهم بابراز وثائق تثبت وقائع، مستندات تعزز أقوالاً، كي يكون نتاج البحث على أعلى درجات الخلو من أية ثغرات.
أما مِن مبادرٍ، بين مؤسسات العرب الأكاديمية، يتصدى لمسؤولية تأريخ بهذه الأهمية، أم حتى في هذه، أيضا، لا مفرّ من فزعة دولية؟