يحتاج المرء إلى أن يتجرد من عقله حتى يصدق بأن غزة على هذا القدر من الغباء بحيث تصبر على ظلم نظام مبارك سنين عجافاً وتعض على جراحها رافضةً التورط في أي مواجهة مع النظام الذي كان يشدد الحصار عليها ويمنع عنها أبسط مقومات الحياة فإذا لاحت بوادر انفراج وبدأت التسهيلات على معبر رفح ودخل مسئولو غزة لأول مرة القصر الرئاسي المصري بينما أوصدت أبواب هذا القصر أمام قادة الكيان الصهيوني رأت غزة أن هذا هو الظرف الأنسب لاستفزاز الشعب المصري ورئاسته واستعدائهم عليها وتجييش كل وسائل الإعلام ضدها وتوفير الغطاء لفرض عقوبات على غزة لم يجرؤ مبارك في أوج سلطانه أن يقوم بها من قبيل قصف الأنفاق وإغلاق كافة المعابر والتضييق على الفلسطينيين المقيمين في مصر أو المارين عبرها..

أتحدث عن quot;غزةquot; كقالب مصمت تجاوزاً وللتعبير عن لسان حال الإعلام المصري الذي يتناول غزة وكأنها قالب واحد، لكنني لا أستسيغ هذا المنطق ابتداءً، فإطلاق الأحكام العامة وأخذ الشعوب بجرائر فئة قليلة منها هو منهج مجانب للعدل وللعلم، وغير واقعي لأنه لا يراعي طبيعة المجتمعات البشرية. فكل مجتمع إنساني عبر التاريخ لا بد أن يكون فيه الصالحون والقاسطون، والعبرة بالتوجه العام لهذه المجتمعات وليس بسلوك فئة منها، فماذا لو تبين مثلاً أن شخصاً من بين المتورطين في الجريمة يحمل الجنسية السعودية؟ هل ستتحول السعودية إلى عدو لمصر تقطع مصر علاقاتها معها وتطرد سفيرها وتمنع مواطنيها من دخول مصر؟؟

ونفس الأمر ينطبق على الشعب المصري ذاته ففي مصر كثير من الفاسدين والمجرمين فهل نعمم الحكم على الشعب المصري بأنه مجموعة من اللصوص والفاسدين والمجرمين بجريرة هؤلاء؟؟..

أقول هذا الكلام افتراضاً للأسوأ قبل أن يتبين إن كان قد ثبت تورط أشخاص من قطاع غزة في هذه الجريمة، لكن حسابات العقل تشير بأصابع الاتهام إلى أعداء غزة وليس إلى غزة كونها من أكبر المتضررين من هذه الجريمة، وقد نالها الضرر مباشرةً بمجرد الإعلان عن هذه العملية الإجرامية..

يتضح من هذه الجريمة أن المستهدف منها هو العلاقات المصرية الفلسطينية وجهود إنهاء الحصار على قطاع غزة التي بدأت تؤتي أولى ثمارها، بالإضافة إلى أنها تستهدف إضعاف موقع الرئيس المصري محمد مرسي وتقوية نفوذ العسكر والتيار المعادي للثورة، فعلى صعيد الوضع الداخلي المصري أوقعت هذه الجريمة الرئيس مرسي في حرج بالغ تجاه وعوده بكسر الحصار عن قطاع غزة ووضعت العراقيل أمام إيفائه بهذه الوعود، فمن يروج بأن غزة هي التي اقترفت جريمة قتل الجنود يقول للرئيس مرسي: هذه هي غزة التي تريد أن ترفع الحصار عنها، لقد كافأتنا بقتل جنودنا والاعتداء على أراضينا، كما أن هذه الجريمة تريد أن تورط الرئيس مرسي بالموافقة على معاقبة غزة أشد مما كان عليه الحال في زمن مبارك لإفشاله سياسياً، وتريد أن تأخذ زمام المبادرة من يده وإعطائها للمجلس العسكري، فبمجرد وقوع هذه الجريمة تصدر قادة المجلس العسكري الواجهة، وأصدر الفريق سامي عنان أوامره دون الرجوع إلى الرئيس بإطلاق النار على كل من يقترب من الحدود فلسطينياً كان أم إسرائيلياً!

أما على صعيد الإعلام المعادي للثورة والذي لا يزال مؤثراً بقوة في الساحة المصرية فقد التقط الفرصة منذ اللحظة الأولى لتعبئة الرأي العام ضد غزة وشيطنة الفلسطينيين، والمطالبة بإنزال أقسى العقوبات ضدهم، ولم يعد مستغرباً في هذه الأجواء أن نسمع الذين في قلوبهم مرض يطالبون بدك الأنفاق بالطائرات، أو اقتحام غزة أو التحقيق مع قادة حماس، وبذلك استطاع مرتكبو هذه الجريمة بضربة نوعية واحدة أن يوجهوا الوعي الشعبي المصري باتجاه اعتبار قطاع غزة العدو الاستراتيجي بدل إسرائيل!!

قطاع غزة الذي قدر له أن يظل على موعد من المعاناة والألم دائماً وأن يظل ورقةً ضائعةً في مهب الرياح المتعاكسة بدأ بدفع ثمن جريمة لم تثبت عليه منذ اللحظة الأولى، فقد أغلق شريان الحياة المتمثل في الأنفاق بشكل كامل مما أدى إلى منع إدخال الوقود والبضائع، كذلك أغلق معبر رفح المتنفس الوحيد إلى أجل غير مسمى، وانعكس إغلاق الأنفاق والمعبر على حياة الغزيين بشكل مباشر، فتوقف إدخال الوقود القطري مما ساهم في مضاعفة أزمة الكهرباء المتفاقمة أصلاً بزيادة عدد ساعات انقطاع الكهرباء على المواطنين في ظل أجواء الصيف اللاهبة وفي ظل شهر الصيام، كذلك ارتفعت أسعار المواد الغذائية ومواد البناء نتيجة توقف إدخالها عبر الأنفاق، وأدى إغلاق معبر إلى تعطل حركة المسافرين، وتكدس قوائم الانتظار على المعبر، كما أدى هذا الإغلاق إلى تهديد موسم عمرة رمضان لهذا العام بالإلغاء..

في ظل هذه الأجواء التعيسة التي سببتها جريمة رفح كانت هناك جهة وحيدة لم تستطع أن تخفي مشاعر الارتياح في تصريحاتها، وكان واضحاً أنها تسعى لقطف ثمار سياسية من هذه الجريمة، هذه الجهة هي إسرائيل فقد أعرب وزير الحرب الإسرائيلي إيهود باراك عن أمله في أن يكون هذا الاعتداء بمثابة نداء استيقاظ لمصر لتأخذ الأمور بأيديها في شمال سيناء, أما quot;يوأف مردخايquot; فقد قال إن قوات الأمن حصلت على إنذار استخباري مسبق عن احتمال وقوع عملية في سيناء مما سمح لها بإجراء الاستعدادات اللازمة لإحباط محاولة التسلل، في حين أشاد رئيس الأركان بيني غاتس بأداء قوات الجيش منوهاً بأنهم تصرفوا بشكل ناجع لإحباط المحاولة المزعومة, مشيرا إلى أن إحباط العملية استغرق 15 دقيقة فقط. أما أفيخاي أدرعي المتحدث باسم الجيش فقد علق بلهجة لا يصعب استنباط ما تحمل من سخرية قائلاً quot;هجوم جبان وعملية إرهابية بشعة في شهر الصيام! لا يحترم الإرهابيون أي شيء وينفذون مخططاتهم أيضاً في رمضانquot;، وفي سياق مواصلة قطف الثمار السياسية من هذا الهجوم نقلت صحيفة يديعوت أحرونوت عن مصادر سياسية رؤيتها في هذا الهجوم فرصةً لتعاون أكبر بين مصر والجيش الإسرائيلي.

إذا كانت هوية الجاني المباشر في هذه الجريمة لم تتضح بعد فإن المؤكد هو أن إسرائيل أكبر المستفيدين منها، في حين أن أكبر المتضررين هما غزة والرئيس مرسي، وفي ظل قاعدة quot;إذا أردت أن تعرف الجاني فابحث عن المستفيدquot; وفي ضوء معرفتنا بالخبرة الإسرائيلية العميقة في مجال العمل الاستخباري فإن احتمالات تورط إسرائيل في التخطيط لهذه الجريمة هي احتمالات قائمة بقوة بالنظر للفوائد العظيمة العائدة عليها من هذه الجريمة.

أضف إلى ذلك وجود ملاحظات فنية تثيرها الرواية الإسرائيلية للأحداث، فبحسب هذه الرواية فإن منفذي الهجوم قادوا مدرعةً مصريةً بعد قتل الجنود المصريين باتجاه الموقع الإسرائيلي، والفلسطينيون في غزة تنقصهم أي خبرة في قيادة أي نوع من أنواع الدبابات أو المدرعات لأن غزة لا يوجد فيها أي نوع من أنواع المدرعات، هذه ملاحظة واحدة عابرة على سبيل المثال لا الحصر، كذلك فإن إصدار إسرائيل أوامر لرعاياها بمغادرة سيناء فوراً قبل أيام قليلة، وإخلاء معبر كرم أبوسالم من الموظفين الإسرائيليين قبل ساعات من الجريمة، واغتيال إسرائيل أحد أعضاء السلفية الجهادية في مدينة رفح تحديداً قبل ساعات من الجريمة ما يعمق من دائرة الشكوك حول تورط إسرائيل في التخطيط لهذه الجريمة

حتى لو ثبت تورط عدد من الأشخاص القادمين من غزة بهذه الجريمة، فإن هذا لا يغير من حقيقة الأمور شيئاً، ولا يعطي المبرر لمعاقبة غزة أو اتهامها، فلو ثبت وجود هؤلاء الأشخاص المفترضين فهم لن يكونوا قادرين على التنفيذ إلا بمشاركة أشخاص من سيناء، فهل يعطي تورط أشخاص من سيناء المبرر لمعاقبة سيناء مثلاً وإغلاق جسر السلام لمنع وصول الغذاء والوقود إليها؟!

في إطار سعي أهل غزة لتبرئة أنفسهم من التهمة التي ألصقت بهم انطلقت عبر مواقع التواصل الاجتماعي أعمال فنية وحملات للتأكيد على أخوة الشعبين المصري والفلسطيني، وتسابق قادة الفصائل إلى الاعتذار من مصر ومواساتها، وكان من بين الأنشطة التي شهدتها غزة في هذا الاتجاه افتتاح بيت عزاء في الجنود المصريين الشهداء في هذا الاعتداء الآثم، وأداء صلاة الغائب على أرواحهم، وأمَّ رئيس الوزراء إسماعيل هنية المصلين في صلاة التراويح أمام مبنى السفارة المصرية-المغلقة منذ ستة أعوام-لإظهار مشاعر الأخوة والتودد للشعب المصري الشقيق..

هذه المساعي الغزية لدفع التهمة أرى أننا بالغنا فيها كثيراً، فنحن لسنا في قفص الاتهام لندافع عن أنفسنا، وكرامتنا تأبى علينا كل هذا التملق والتمسكن لإرضاء تيار في الساحة المصرية لن يرضى عنا حتى نتبع ملته، وعلى رأي إحدى التدوينات الفيسبوكية quot;مش مطلوب منا أن نسوق كل هالتبريرات وان نحلف ع شباك النبي اننا صالحون..وأن نشغل المحبنجكية يكتبوا في حب مصر.quot;

يكفي لإثبات براءتنا أن التوجه العام في غزة ينظر إلى الشعب المصري بأنه امتداده الاستراتيجي، وأن نسبةً كبيرةً من أهل غزة-بمن فيهم أنا- تربطهم علاقات قرابة أو مصاهرة مع الشعب المصري، وما دام هذا هو التوجه العام في غزة فإنه لا يجوز معاقبة غزة على هذه الجريمة حتى بالحد الأدنى للمعاقبة التي تمت حتى الآن بإغلاق معبر رفح والأنفاق وما نتج عن ذلك من شلل في مرافق الحياة، ومن الواجب الإنساني والأخلاقي إعادة فتح معبر رفح حالاً دون إبطاء إفشالاً لأهداف مرتكبي الجريمة..

لا أستطيع أن أخفي شعوراً بالعتاب لجزء من الشعب المصري يسارع لتصديق ما يبثه الإعلام المأجور على الساحة المصرية ويبتلع بسهولة الوجبات المسمومة التي يقدمها هذا الإعلام، وإذا كنا نمتدح في الشعب المصري طيبته، فإن هذه الطيبة لها أوجه سلبية أحياناً تتمثل في تصديق كل ما يصدر عن إعلامه أو عن قادة جيشه والنظر إليه نظرة تقديس دون تفكر أو تمحيص.

بالرغم من الآثار السلبية لهذه الجريمة إلا أنه يمكن الاستفادة منها وقلب السحر على الساحر، وذلك باستغلال الفرصة لزيادة عدد القوات المصرية في سيناء والتحرر من الشروط المهينة للسيادة المصرية التي تضمنتها اتفاقية كامب ديفيد، وإذا كان الإعلام المأجور يروج بأن مرتكبي الجريمة قدموا عبر أنفاق رفح، فنحن نطالب الرئيس مرسي ونلح عليه بأن يغلق هذه الأنفاق بعد القضاء على الظروف غير الطبيعية التي أنتجتها وذلك بفتح معبر رفح بشكل كامل، وفتح طريق تجاري لإدخال البضائع من فوق الأرض، وبذلك لا يكون هناك مبرر لبقاء الأنفاق التي لم تكن يوماً هي الخيار المفضل سواءً للمصريين أم للفلسطينيين..

quot;ولا يحيق المكر السيء إلا بأهلهquot;..
كاتب فلسطيني من غزة

[email protected]