يرسم القرآن نموذج الشخصية المنيبة الخاشعة التي لا يسكرها النجاح ولا تستغرقها نشوة الانتصار. وهي أقرب إلى التذلل والانكسار منها إلى الفرح والغرور.
هذا النموذج القرآني لا يعبر عن نفسه في آيات متناثرة في بعض السور وحسب، بل هو اتجاه عام تلمسه في كل جوانب القرآن..فعباد الله الصالحون هم أولئك الذين يعيشون في حالة دائمة من التضرع والافتقار والالتجاء إلى الله ولا يفرحون بما أتاهم، وهم ينظرون إلى أي نجاح أو انتصار يحققونه في حياتهم بأنه ابتلاء يحذرون أن يصيبهم بالغرور وأن ينسيهم الالتجاء إلى ربهم..
يبدو هذا النموذج الذي يدعو إليه القرآن واضحاً في سورة النصر وهي آخر سورة نزلت كاملةً من القرآن الكريم، وكان النبي محمد في تلك الأثناء في أوج نجاحه وانتصاره، وكان الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، وقد دانت له القبائل بالطاعة، وهي لحظات تغري أي إنسان بالفرح والانفعال..لكن القرآن ينزل في هذه اللحظة بالذات ليدعو النبي محمداً للانكسار والاستغفار: quot;إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباًquot;
لماذا يجب أن يستغفر الإنسان بينما هو في أوج نصره ونجاحه..إن البشر يستغفرون حين يكونون في كربة وضيق وهزيمة وفشل، ولكنهم حين ينجحون فإنهم ينتشون ويسكرون ويرقصون حتى ينسوا أنفسهم..
تبدو هذه الفلسفة القرآنية مختلفةً عما ألفه البشر ولا يزالون يألفونه حين ينجح أحدهم حيث يخرج عن وقاره وتسكره النشوة ويدخل في حالة انفعالية تخرجه عن وقاره واتزانه..حتى أننا نستعمل تعبيراً رمزياً لوصف لحظة النجاح بالقول quot;رقصة النجاحquot;..والرقص ما هو إلا حركات انفعالية يسكت فيها صوت العقل ويعلو فيها صوت النشوة والانفعال..
إن الدعوة إلى الاستغفار في هذه اللحظات بالذات هي دعوة للتوازن النفسي والسيطرة على الذات حتى لا تنسينا هذه اللحظة ما ينتظرنا من تحديات وواجبات لم تنته بعد..
الإنسان مهما بلغ من نجاح وانتصار فهو لم يبلغ نهاية الطريق بعد ولا يزال أمامه المزيد ليفعله.. حتى لو تمكن من السيطرة على العالم كله فإن مهمته لم تنته لأن المحافظة على العالم بعد السيطرة عليه هو أهم من السيطرة ذاتها، وهذه المحافظة بحاجة إلى يقظة وتنبه دائمين، بينما النشوة والانفعال تقود إلى الغفلة التي قد تذهب بما حققناه بالفعل..
الفرح هو عدو العقل والله لا يحب الفرحين..الفرح ما هو إلا حالة انفعالية تسيطر فيها نشوة اللحظة على الإنسان فتنسيه نفسه..بينما الاستغفار الذي لا تهواه أنفسنا منبه دائم بأنه لا يزال هناك ما هو جدير بأن نفعله، وهو مستفز لنا بأن نبحث عن مواطن القصور لمعالجتها فيكون التقدم نحو الكمال..
الظن بأننا بلغنا نهاية الطريق وأن ما حققناه هو كل شيء يدفعنا إلى التراخي والتكاسل والركون فتبدأ مسيرة التراجع، ويصبح ما حققناه بالفعل مهدداً بالزوال، بينما إبقاء حالة الاستنفار العقلي وحمل النفس على ما تكره باتهامها بالقصور وبأنه لا يزال ينتظرها المزيد من العمل والجهد، وأن ما حققته على أهميته ليس كافياً هو الضمانة الوحيدة لمواصلة طريق التقدم..
النفس البشرية تهوى الفرح والرقص والطرب وتود الخروج من حالة العمل والجهد والشعور بالتقصير.. لكن الحالة الثانية على مرارتها هي وحدها التي تدفع الإنسان إلى الأمام، وفي اللحظة التي يشعر فيها الإنسان بقيمة ما أنجزه يتوقف عقله عن الإبداع.وقد قيل قديماً quot;من ذاق طعم نفسه هلكquot;..
لا شك أن شعور الإنسان بالثقة بنفسه، واستحضار لحظات النجاح والانتصار ضروري في سبيل مواصلة النجاح..لكن الثقة شيء والنشوة شيء آخر..فنشوة الفرح هي التي تصيب النفس بالفتور والكسل..
إن إبقاء العقل في حالة الاستنفار والتحدي شرط ضروري لمواصلة الإبداع والتقدم.
من اللافت أن أكثر الناس نجاحاً هم أكثرهم شعوراً بالتقصير..في سيرة الصحابة نجد أن أبا بكر كان أكثرهم خشيةً من الله مع أنه كان أحسنهم عملاً، ونجد أن عمر بن الخطاب كان يسأل معاذ بن جبل إن كان اسمه من المنافقين بينما رأس المنافقين كان ينام آمناً على نفسه لا يشعر بأي قلق، وفي الحديث إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا..
ألم يكن أبوبكر هو أولى الصحابة بالفرح والسرور كونه أفضلهم عملاً..وألم يكن ابن أبي سلول أولى بالخشية على نفسه من النفاق من عمر بن الخطاب..كيف نفهم هذا التناقض؟؟
إن حالة الشعور بالتقصير والخوف التي كانت تسيطر على أبي بكر وعمر هي التي كانت سبباً في المكانة التي حظيا بها، ولو حدث أن أحدهما شعر بقيمة عمله، وذاق طعم نفسه لما استحق هذه المكانة ولهوت نفسه في طريق الانحدار..
من أراد أن ينعم بحسن العاقبة فإن عليه أن يبقى في حالة دائبة من العمل والاستنفار وأن يقاوم أي شعور بالنشوة وأن ينسى أي فضل لنفسه..حينها سيدرك الناس فضله دون أن يتحدث عنه..
تعبر فلسفة الإسلام عن نفسها في شعائره ومظاهره..ومما سنه الإسلام هو سجدة الشكر لحظة الفرح.. والسجود تعبير عن الانكسار والتضرع إلى الله، وسجدة الشكر تعبير عن التحكم بالنفس في لحظة النشوة، والتبرأ من أي فضل لهذه النفس ونسبة الفضل كله لله فيبقى الإنسان في حالة توازن نفسي تكون هي الضامن لمواصلة التقدم دون أن يعتريه الكسل أو الفتور..
الفرق بين سجدة الشكر ورقصة النجاح هو أن الأولى فيها تهذيب للنفس واستحضار للعقل بينما الثانية هي إعلان عن غياب العقل وخروج النفس عن توازنها..
في زمن الانتصارات التي تحققها الشعوب العربية ينبغي استحضار هذه المعاني فلا تسيطر علينا النشوة بإسقاط الرؤساء بينما لا يزال في انتظارنا الكثير من التحديات والعمل، والأهداف التي تنتظر التحقيق..
والله أعلم..
[email protected]
التعليقات