يحكى أن الرئيس البوسني السابق علي عزت بيغوبيتش رحمه الله كان قد اعتاد الصلاة يوم الجمعة في الصف الأول، وذات مرة وصل إلى صلاة الجمعة متأخراً ففتح له الناس الطريق إلى أن وصل الصف الأول فاستدار للمصلين بغضبٍ وقال مقولته الشهيرة quot; هكذا تصنعون طواغيتكمquot;.
قرأت هذه القصة في أحد المواقع التفاعلية تعليقاً على مقطع فيديو يظهر فيه ولي عهد المغرب وهو صبي لا يتجاوز عمره الثماني سنوات وهو يفتتح حديقة حيوان في بلاده، وكبار رجال الدولة يتسابقون على تقبيل يديه وينحنون أمامه، متذللين متزلفين يبتغون عنده الوسيلة..

مشهد التذلل لهذا الصبي لا يملك أمامه كل من لا يزال في قلبه بقية من كرامة إلا أن يتمعر وجهه غضباً لهذا الواقع المهين الذي يجعل طفلاً لا يستطيع أن يتحكم في نفسه يتحكم في البلاد والعباد وتهيؤ له الطريق ليحكم ملايين البشر فيهم العلماء والمفكرون والمثقفون والمجاهدون..
لكن هل يحق لنا أن نلقي اللوم على هذا الطفل أو حتى على أبيه، أم أن اللوم يقع على أنفسنا؟؟...

لم يكن وجه الغرابة هو ادعاء فرعون الألوهية، فهذا هو شأن الإنسان أن يغتر بنفسه ويطغى في البلاد حين لا يجد من يصده quot;إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنىquot;، لكن وجه الغرابة كان في قابلية الشعب الذي يحكمه فرعون لهذا الاستخفاف quot;فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوماً فاسقينquot;..
الطاغية هو بشر عادي لا يمتلك قوةً بيولوجيةً خارقةً، ولو اجتمع عليه رجلان أو ثلاثة لأردوه قتيلاً، فكيف يستطيع هذا البشر العادي أن يمسك بمقاليد البلاد والعباد، وأن يستكبر في الأرض فيقول أنا ربكم الأعلى، وأن يدوس على رقاب الملايين؟

إن المدان في صناعة الطاغية هو الشعب أولاً، فلا يمكن لحاكم أن يستعبد شعبه إلا إذا كان في هذا الشعب قابلية الاستعباد، فيأتي الطاغية وفق ميزان العدل الإلهي quot;والسماء رفعها ووضع الميزانquot; ليلبي حاجةً في النفوس المريضة بضرورة وجود صنم تتذلل له نفوسهم وتخضع له رقابهم..
لقد هدى الله الإنسان النجدين، ومن عجائب النفس البشرية أنها تحوي الشيء ونقيضه، فكما أن الفطرة الإنسانية مجبولة على عشق الحرية، والموت في سبيلها، فإن في النفس البشرية حين يدسيها صاحبها ميلاً للعبودية والصغار quot;وقد خاب من دساهاquot;..

يظهر هذا الميل للعبودية حين يحقر الإنسان نفسه ويذلها طلباً لرضا حاكمه أو رئيسه أو مديره، فيقبل يديه وقدميه، ويتوسل إليه، ولا يكتفي بأن يذل نفسه لهذا المسئول وحده، بل ربما أذلها لطفله في سبيل رضاه، بل ويجد لذةً إذا شتمه مديره وأهانه، وربما لا تكون هناك حاجة ملحة لهذه الضعة إلا أن نفسه جبلت عليها..
تجد فريقاً من الناس يكثر من التذمر والتأفف من شيوع الفساد والواسطة والمحسوبية في المجتمع، ويشتم المسئولين على مسئوليتهم، فإذا حدث يوماً أن زار أحد هؤلاء المسئولين مؤسسته، أو مر أمامه في الطريق نسي ما كان يدعو من قبل وسارع إلى معانقته وأفاض عليه عبارات الثناء والإعجاب، وأقسم عليه أن يتناول طعام الغداء عنده، وهو لو لم يفعل ذلك لما ناله أي ضرر، وكان يستطيع أن ينكر المنكر بقلبه فيعرض عن هذا المسئول أو يظل صامتاً وذلك أضعف الإيمان، ولكنها المسارعة إلى التذلل والتملق، وهو بفعله هذا يساهم في ترسيخ واقع الاستبداد والفساد الذي يشكو منه.

هذه القابلية الخفية للاستعباد في نفوس الناس هي التي تفسر لنا سر تمكن حاكم فرد من الدوس على رقاب الملايين..
إننا نحن من يصنع طواغيتنا، والخطوة الأولى في طريق الخلاص من الأنظمة الاستبدادية هو أن نتحرر نفسياً من الشعور بالذلة والضعف والنقص تجاه هؤلاء الحكام فلا نتملقهم ولا نتذلل إليهم، بل ننظر إليهم نظرة الند للند، فالحاكم أجير عند شعبه، يعطيه هذا الشعب راتباً ومنصباً مقابل أن يخدمه، فإن عجز عن خدمته فإن عليه أن يتنحى جانباً ويخلي المنصب لغيره، وعدا هذه الوظيفة فإن الحاكم هو بشر عادي مثله مثلنا يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، ولا يملك لنا ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً..

الحرية هي رصيد نفسي قبل أن تكون واقعاً سياسياً، فإذا كانت النفوس مشبعةً بالإيمان والامتلاء الروحي، ولا تعاني من عقدة نقص فإنها لن تسمح لأحد بأن يستعبدها، وستفيض هذه الحرية النفسية على الواقع الاجتماعي فلا يقبل الناس لحاكم أن يذلهم أو يهينهم..
إن للإيمان مفعولاً عجيباً في تحرير النفوس، وتحريضها على الثورة على الطغيان، لأنه يغرس فيها بأن هؤلاء الحكام عباد أمثالنا لا يملكون لنا شيئاً، فينتج هذا الإيمان نماذج مثل بلال بن رباح الذي تشبع قلبه بالإيمان فلم يعد يرى لسادة وكبرائها من فضل عليه وهو العبد الأسود الحبشي، بل رآهم عباداً لا يملكون له ضراً أو نفعاً، فثار على ظلمهم، وحطم أغلال العبودية وصدع بكلمة الحرية الخالدة quot;أحد أحدquot;..

يتميز القرآن بفلسفته الرائدة حين يعتبر القبول بالاستضعاف جريمةً في مرتبة جريمة الاستكبار، فبينما يتعاطف البشر مع المستضعفين في وجه المستكبرين إلا أن القرآن يلوم هؤلاء المستضعفين على القبول بواقع الاستضعاف ويجعله سبباً مستحقاً للعذاب يوم القيامة، وذلك لأن المستكبرين لم يكونوا قادرين على استعباد هؤلاء لو لم تكن في نفوسهم القابلية للاستعباد: quot;وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعاً فهل أنتم مغنون عنا نصيباً من النار*قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العبادquot;
والله أعلم..
[email protected]