لقد كان أسوأ ما حدث في مصر خلال الحلقات الثلاث من عصر ثورة يوليو 1952 هو تعويق التفاعلات المجتمعية بمختلف مجالاتها، وإجبار عموم الناس على الانصراف إلى شئونهم الخاصة إيثاراً للسلامة، واقتناعاً بأن مشاركتهم في العمل العام لن تجدي في تغيير مسار البلاد أسيرة سلطة بوليسية جبارة لا قبل لهم بمواجهتها، وما صاحب ذلك من شيوع ثقافة وسيكولوجية انسحابية تواكلية، تتضرع إلى الله أن يغير ما بقوم يحجمون عن تغيير ما بأنفسهم، في ذات الوقت الذي جلبت فيه المتغيرات والتأثيرات العالمية التي لم تنج منها بقعة في العالم تيارات شتى، تتراوح ما بين العلمانية والليبرالية والأصولية الدينية، لتضاف للنزعات النخبوية العروبية واليسارية المستوطنة، والتي ظلت جميعها بدرجة أو بأخرى وبأساليب متنوعة تحت غطاء ثقيل من الحظر، فتقزم بعضها كما في حالة التيارات الليبرالية أو العلمانية باختلاف أطيافها وأجنحتها، التي لم تجد نخبها سوقاً لبضاعتها وسط جماهير آثرت البحث عن السكينة والسلوى واليقين في رحاب تدين مظهري طقوسي، وصاحب ذلك تعملق تحت السطح وفوقه للتنظيمات الأصولية الدينية، والتي وفرت لها خبراتها التاريخية مهارات العمل السري، لتجتر مقولاتها داخل كهوفها الخاصة، وتتحدث همساً حيناً وصراخاً حيناً آخر بخطابها الخاص، الذي لا يراعي أو يتحسب لوجود آخر، وإن فعل فبالمواجهة العدائية، التي تدفع من نصبوا أنفسهم نواب الله على الأرض لأن quot;يركبوا أعلى ما في خيولهمquot; من تطرف.
- آخر تحديث :
مصر والفوضى الخلاقة
الآن وقد سقط النظام القديم وتصدعت أجهزته الأمنية، وخرج من المعتقلات والسجون عتاة الإرهابيين، ليتبوأوا مراكز السلطة والسيادة الرسمية والشعبية والإعلامية، نجد أنفسنا في حالة اختلاط وعشوائية في جميع المستويات، بدءاً من الشارع المصري الذي تدلل سلوكياته للمراقب الخارجي أن المصريين أبعد ما يكونون عن إدراك معنى الحرية والالتزام بقواعدها وسلوكياتها وقيمها، فكانت الفوضى في عالم الإنشاءات المعمارية والتعدي على أراضي الدولة، وافتراش الباعة الجائلين الطرق والأرصفة في المدن، ولتسير السيارات وتتوقف كما يحلو لسائقيها، ضاربين عرض الحائط بكل ما كانوا مجبرين عليه في السابق من سلوكيات تراعي إلى حد ولو يسير انتظام واحترام قواعد الحركة، وكنا جميعاً ننتقد وقتها تدني درجة الالتزام، ونلقي بالتبعة كعادتنا على تخاذل الدولة عن تحقيق الانضباط في الشارع، هذا بالطبع بخلاف تفشي حالات السطو والبلطجة التي كانت الأجهزة الأمنية في السابق تحد منها جزئياً فقط، وليس فقط لإنصاف الوضع الراهن ينبغي أن نقر أننا أمام حالة تسيب تتفاقم، لكنها في أصلها موروثة ومتأصلة منذ السنوات الأخيرة للعهد السابق، والذي أصيبت فيه مؤسسات الدولة بالشيخوخة والوهن بالتوازي مع تقدم الجالس على عرش مصر في العمر وتحلل قواه، مما يعني أن الفوضى ليست مستجدة أو مستحدثة على الشعب المصري، وإنما نستطيع القول أنه بارع فيها بحكم الخبرة!!
أما على المستوى السياسي فقد جاءت الفوضى أعم وأشد وبالاً، فلم تكد التيارات الليبرالية والعلمانية تتنفس الصعداء لتبدأ التحرك في الشارع المصري، حتى وجدت نفسها في مواجهة الجماعة التي كانت محظورة، وقد صارت الآن هي صاحبة السلطة والأمر والنهي، وهي التي تشرع في هدم الدولة التي وصفتها بالعميقة، ربما لما اكتشفته من صعوبة تفكيكها أو هدمها، ليس هذا فقط بل والأنكى جماعات الجهاد الخارجة من المعتقلات والسجون، وقد وجدت نفسها فجأة تنتقل من خلف القضبان إلى برامج التوك شو في الفضائيات التليفزيونية، هؤلاء الذين دفعتهم سنوات البقاء قيد الأغلال إلى التحايل على سجانيهم بما يعرف بالمراجعات وجدوا أنفسهم طلقاء، والتحق بهم إخوانهم الهاربين والمنفيين إلى شتى مراكز تجمع الإرهاب في العالم، واستقبلهم الثوار والمجتمع المصري وكأنهم أبطاله الذين اضطهدهم نظام ديكتاتوري، وليسوا قتلة هددوا الحياة في وادي النيل لأكثر من عقدين من الزمان، بل وصاروا هم من يدفعون بمن حاكموهم وحكموا عليهم إلى ذات الزنازين التي أنفقوا فيها عمرهم، وما أن وصلت طليعتهم السياسية (المحظورة سابقاً) إلى سدة الحكم، حتى تصوروا أنهم بسبيلهم لتنفيذ مشروعهم الذي سبق وأن حمل رايته تنظيم القاعدة وطالبان وغيرها من التنظيمات الجهادية الإسلامية، ليبدأ مع هذا بالطبع استفاقة سريعة جديرة بالدهشة والتثمين لقطاع من الشعب المصري - نظنه سينمو يوماً فيوماً ndash; على هول الكارثة المحدقه به وببلاده.
عندما يلتقي هؤلاء الفرقاء في ساحة تفتقد لأبسط قواعد النظام وسيادة القانون الذي يجتهد الممسكون بالسلطة الآن لانتهاكه وذبح قضاته، ليس لنا أن نتوقع أن يجري بينهم حوار أو تفاعل سياسي مجتمعي بالمفهوم الصحيح لهذه المصطلحات، وإنما الأمر أقرب لأن يكون صراعاً بين حفاري قبور وكهوف يحاولون إدخال الشعب المصري فيها، وبين شعب يحاول بعضه الإفلات من هذا المصير، فيما بعضه الآخر لم يغادر بعد موقف المتفرج الذي اعتاده، وينظر لما يحدث بخوف ودهشة.
الحالة المصرية حتى الآن لم تستكمل شروط حدوث حالة quot;فوضى خلاقةquot;، فدرجة السيولة المطلوبة لهذه الحالة لم تتوفر بعد، وإن كنا في طريقنا إليها، مع إصرار جماعة الإخوان وأصحابها على استكمال هدم الدولة وليس فقط نظام الحكم، ومع تصاعد المد الشعبي الثوري المناهض لهيمنة التيارات الدينية. . ما نشهده الآن إذن هو بداية صراع بين مكونات المجتمع الواحد، ونرى الآن تباشير هذا الصراع كمثال ما حدث بين الفريقين عند قصر الاتحادية الرئاسي، وحصار السلفيين للمحكمة الدستورية العليا ومنع قضاتها من دخولها، وحصارهم لمدينة الإنتاج الإعلامي التي يعدونها معقل العلمانيين والليبراليين الكفار أعداء الله، وفيما حدث عند مسجد القائد إبراهيم في الإسكندرية، حين اعترض المصلون خطيب المسجد الأصولي الشهير وحاصروه واشتبك معهم مؤيدوه، ليتكرر الصدام بين الفريقين في الجمعة التالية، وقد تكرر مثل هذا المشهد بدرجات وألوان متعددة في أكثر من مسجد خلال خطب الجمعة، وهو الأمر غير المسبوق في مصر، التي اعتاد فيها المصلون الإنصات صاغرين لما يقوله الإمام باعتباره الصوت الناطق باسم الإله، وبالتالي تجرع ما يقال لهم دون التفكير في مراجعة أو نقد ما يقال حتى فيما بينهم وبين أنفسهم. . هي ولاشك بداية الصراع داخل المجتمع المصري، والذي لا نتوقع بالطبع أن يأخذ شكل حرب أهليه، تلك التي نرجو أن تصيب نظرتنا أنها بعيدة كل البعد عن الظروف المصرية وطبيعة الإنسان المصري.
لابد أيضاً أن يمتد ذلك الصراع بين الفرقاء إلى صراع داخلي بين الإنسان وذاته، ليعيد تقييم أفكاره وقيمه وثوابته وعاداته وتقاليده وسلوكياته على ضوء ما يتكشف من حقائق يراها الآن ماثله أمامه، بعد أن كان يبني بها قصوراً من أحلام طوباوية، فالزلزال الذي أطاح بنظام الحكم ويطيح الآن بالدولة، لابد وسيترتب عليه زلزال آخر هو بالتأكيد أشد قسوة وأكثر خطورة وجذرية في نتائجه وانعكاساته على الفكر والثقافة والحياة المصرية.
ينتظر أيضاً استكمالاً لحالة quot;الفوضى الخلاقةquot; علاوة على نجاح المخطط الإخواني في إصابة مؤسسات الدولة المصرية في مقتل في معرض سعيهم لأخونتها، أن يتم تثوير طبقة أعمق من المجتمع المصري، لتتضخم كتلة الثائرين على هيمنة التيار الديني على السلطة وعلى حياة الإنسان المصري بكافة مناحيها، ولا نتوقع بالطبع أن تسير عملية تثوير العامة هذه بخطى سريعة، لكننا نظن أنها سوف تتقدم باطراد بالتوازي مع إمعان الإخوان وملحقاتهم في المضي نحو هدفهم المسبق والمعلن، وهو العودة بمصر لقيم ونظم وقوانين تنتمي لأربعة عشر قرناً خلت، وما لابد وأن يصاحب ذلك من فشل اقتصادي من المرعب تخيل ماذا يمكن أن يفعل ببلاد تعدادها يقترب من 90 مليوناً، مما يمكن أن يقترب بنا إلى كارثة ثورة الجياع، وحشودهم مهيأة الآن في البؤر العشوائية المحيطة والمنغرسة في قلب كل المدن المصرية بداية من العاصمة.
من الممل بالنسبة لكاتب هذه السطور - على الأقل - إعادة توضيح ما سبق له توضيحه في أكثر من مقال، وهو أن quot;الفوضى الخلاقةquot; ليست مصيراً أسود يدبره لنا أعداء شعوبنا، وإنما المصطلح يشير إلى رؤية سياسية لنظرية علمية ثبت صحتها في العالم الفيزيائي والحيوي، ويطلق عليها quot;الانتظام الذاتيquot;، ويعد تطبيقها المجتمعي أو السياسي بمثابة برزخ ضيق يعد المرور منه باهظ التكلفة، علينا عبوره لنصل إلى حداثة استعصت علينا واستعصينا عليها، هذا مادام الإصلاح التدريجي لنظمنا قد فشل، وقررت شعوبنا الثورة عليه فيما يسمى quot;الربيع العربيquot;، والحقيقة أن quot;الربيعquot; لكي يأتي لابد وأن يسبقه quot;شتاءquot; قد يكون قارص البرودة، وهو بالتحديد ما قد دخلنا فيه الآن.
التعليقات