لقد ثرنا على مبارك وغيرناه، ونثور الآن على استئثار الإخوان بالسلطة وسعيهم للتمكين لجماعتهم فاشية النزعة، ولابد أن ننجح يوماً في هذا، ورغم وجود المئات أو الآلاف من القضايا المرحلية الملحة الآن في مسيرة سعي الشعب المصري للحصول على حكم رشيد، خاصة وأننا كما تقول الحكمة الشعبية quot;خرجنا من حفرة لنسقط في هاويةquot; أو المثل العربي quot;للمستجير من الرمضاء بالنارquot;، إلا أن الانسياق الأعمى في ذات الاتجاه الذي سبق وأن وصل بنا من quot;الحفرةquot; إلى quot;الهاويةquot;، ربما سيقودنا إلى المزيد من الكوارث.
نحن نتجه بثوراتنا هكذا إلى قمة الهرم أي لنظام الحكم، وربما كان ادعاء أو تصور أن الستين عاماً الماضية من تاريخ مصر السياسي كانت حكماً عسكرياً مفروضاً على البلاد قد ساهم في التشويش على حقيقة أزلية أبدية، هي أن نظام الحكم لأي شعب هو أولاً وأخيراً نتاج للتربة الوطنية، وحفظنا في معرض هذا أقوالاً مأثورة عديدة، مثل quot;الحكام مرآة شعوبهمquot; وquot;كل شعب يحصل على الحكومة التي يستحقهاquot;، إلا أن الشعوب خاصة ذات الفكر الأبوي منها تنزع لتوجيه نقدها ونقمتها على أحوالها إلى رأس الهرم أو نظام الحكم وشخوصه، ولا تفكر عادة في مسئوليتها عن فساد الحكم وفشله في تحقيق النجاح المرجو للشعوب.
نعم طبيعة نظام الحكم تؤثر على مسيرة الشعوب، فقد تتأخر بها إذا كانت النظم متخلفة ورديئة، وقد تفتح لشعوبها بوابات ولوج العصر وتدفعها في طريق التقدم إذا كانت نظم حكم رشيدة، ودون الدخول في أجحية quot;أسبقية البيضة أم الدجاجةquot;، نقول أن كلا الطرفين quot;الشعب والحاكمquot; يلزمهما رفيقاً أو شريكاً صالحاً للمسيرة التي ينتوون السير فيها، ناهيك على الحقيقة التي لابد أن نتجرعها على مضض، وهي أن الحاكم ونظامه هو ابن وليس والداً للشعوب، وبالتالي فهو الذي يحمل جيناتها وصفاتها وليس العكس.
الحقيقة أنه يتحتم علينا إذا كنا نحلم بحياة أو نظام حكم أفضل أن نثور على أنفسنا، على أفكارنا وثقافتنا وثوابتنا التي أنتجت كل هذا الكم من الفساد والتخلف، فما لم نغير ما بأنفسنا لن يتغير شيء في حياتنا البائسة، وسنظل نعيد إلى الأبد إنتاج فشلنا المزري وإن بصور متعددة، فرغم أنه ينبغي التركيز الآن على الإفلات من بين براثن الإخوان، إلا أنني لا أستطيع طرد القلق بل والتشاؤم مما سنجده في انتظارنا بعدها، فليس ثمة غير التشرزم والتكلس والتعفن الفكري والسياسي، فغياب البديل الحداثي الحقيقي أهم أسباب وقوعنا فيما وقعنا فيه.
الحقيقة أن هوجة 25 يناير 2011 التي أطلقنا عليها بفخر وفرح quot;ثورة اللوتسquot;، ولا تستكمل بالفعل مقومات مصطلح quot;ثورةquot; إلا بما يحدث الآن في 2012 من مواجهة ما نتج على المرحلة الأولى من أخطاء، لابد وأن تتجه لأسفل نحو القاعدة الشعبية، نحونا نحن، لتكون ثورة مستمرة شاملة متعددة الحلقات والاتجاهات، حتى يصبح الشعب المصري على أعتاب عصر جديد بحق، عصر الحرية والحداثة والانفتاح على العالم.
المشكلة الأزلية في مصر أنها بطبيعتها الجغرافية كانت دائماً وعبر التاريخ دولة مركزية، فتشكلت التركيبة الاقتصادية ومن ثم الثقافة والسيكولوجية المصرية في حضن الفكر الأبوي (البطريركي)، الذي ينتظر quot;النعمquot; من quot;ولي النعمquot; الجالس على قمة الهرم، كما يصب عليه نقمته أيضاً إذا ما ساءت الأحوال، وإذا كانت الثورة المصرية الأولى في يناير 2011 وحلقتها الثانية الآن في 2012 ستظل على نهج النقمة على quot;أبانا الذي على العرشquot;، لأنه لم ينفحنا ما نطمع فيه من خيرات، فلن نصل إلا لطرق مسدودة وأنفاق مظلمة، بعضها قد يكون أشد أو أقل إظلاماً من الآخر، لكنها لن تخرجنا أبداً من التخبط داخل الكهوف والأنفاق المظلمة، ذلك أن الطريق إلى غد أفضل حقيقي لابد وأن يمر عبر البوابة الواحدة الوحيدة وهي quot;الثورة على الذاتquot;.
إذا صح التصور القائل أن نظام مبارك كان أفضل قليلاً مما نستحق لكننا ثرنا عليه، وأن الإخوان والسلفيين أسوأ قليلاً مما نستحق ونثور الآن عليهم، فإن هذا قد يعني بداية الثورة على أنفسنا، كما قد يعني إن فشلنا في استيعاب هذه الحقيقية البقاء في أسر دائرة جهنمية مغلقة، والتخبط في فشلنا دونما أمل في تفاعلات حقيقية تنجب لنا الجديد المختلف تماماً عن كل ما كان وما هو كائن.
نعم يجب أن تستمر الثورة لأجل غير مسمى، ليس لحين التخلص من حكم الإخوان والسلفيين، الذين هم في الحقيقة quot;أسوأ كثيراً مما نستحقquot;، ولكن أيضاً للتخلص من كل هذه التشكيلة العجيبة البائدة والمتنافرة من الرموز التي تقود الثورة الآن تحت مسمى quot;جبهة الإنقاذ الوطنيquot;، مع التحفظ بالطبع على ما قد توحي به العبارة من شمولية الحكم على سائر الناس، فلا يوجد حكم تعميمي صحيح على البشر، لكننا نتحدث عن الصفات والمواصفات الغالبة على أكثرية هؤلاء، فهم كما الإخوان فلول أسوأ العصور في تاريخ مصر الحديث، بداية من عصر عبد الناصر إلى السادات حتى مبارك. . يحتاج الشعب المصري للبحث عن مصادر جديدة يستمد منها أفكاره وسلوكياته، بعدما يثبت لديه بيقين كامل الفشل التام لكل ما يرتكن إليه الآن من مرجعيات وثقافة وعادات وتقاليد، يحتاج لمرجعيات حديثة بريئة من الانغلاق الديني والانكفاء العروبي والحماقات اليسارية التي برأ منها العالم أجمع بداية من معاقلها.
نأمل أن يكون ما نستهدفه في هذه السطور يحدث الآن بالفعل ولو دون وعي واضح، وأن تكون النيران التي يشعلها الإخوان والسلفيين الآن في الوطن ستحوله إلى بوتقة ينصهر فيها الشعب المصري، فتحترق كل الشوائب والأشواك، ليخرج منها في النهاية شعباً مستعداً وقادراً على التوجه نحو مستقبل أفضل، فحق الحياة تنزعه كل الكائنات بإمكانياتها الذاتية حتى أبسطها وأضعفها، فقط الإنسان ينتظر بعض أفراده وجماعاته أن تُقَدم لها الحياة على طبق من ذهب.
التعليقات