واضح أن quot;الربيع العربيquot; أخرج القوى الإسلامية من معتقلاتها وسجونها الصغيرة الضيقة، لتضع الشعب المصري وسائر شعوب المنطقة في سجن كبير. . المشكلة في ثورات الشعوب العربية المسماة quot;الربيع العربيquot; أن الجماهير البريئة التلقائية خرجت تصرخ مطالبة بـ quot;عيش. حرية. كرامة إنسانيةquot;، فيما القوى المنظمة والمحركة الداعمة لها كانت تراها quot;هَبَّةquot; من أجل تمكينها من فرض الهيمنة باسم الدين، فكان من الطبيعي أن تصب النتائج النهائية في صالح القوى المنظمة، وتتبدد آمال الجماهير في مستقبل أفضل، أو بالأصح لتجد هذه الجماهير نفسها تخرج من حفرة لتسقط في هاوية. . كلا الطرفين الآن يتهم الآخر بسرقة ثورته، الجماهير البريئة ذاهلة وهي ترى نفسها تساق إلى حيث ما لم تحتسبه وتسع إليه، والقوى الفاعلة الإسلامية تأبى أن تتخلى عن حلمها الذي اجتهدت من أجله وكللت جهودها بالنجاح بخروجها من السجون ووصولها للسلطة، والأمر بالنسبة لها فرصة تاريخية لا يمكن بأي حال أن تفرط فيها، مهما اشتد بكاء وعويل الضحايا، ومهما بالغوا في الشجب والتنديد ولطم الخدود.
ليست المعضلة في مسألة قدرات تيارات الإسلام السياسي التنظيمية فقط، فالجماهير التي خرجت كانت تعرف بتحديد لابأس به ما ترفض، وهو حالتها الاقتصادية المتردية، وبجانبها الحكم الديكتاتوري الذي يظل جاثماً فوق صدورها مدى حياة الديكتاتور، ثم يسلمها لابنه ليعيد تاريخ أبيه، وربما كانت تعرف أيضاً ولو بصورة عامة وغائمة ما تريد، دونما أدنى فكرة عن الطريق الذي عليها أن تسلكة للوصول إلى ما تريد، ودون وعي بفيروسات الداء الكامنة في ثقافتها وعاداتها وتقاليدها وسلوكياتها، والتي تلعب دوراً جوهرياً في بقائها أسيرة الوضع الذي خرجت لتثور عليه، أما النخبة المثقفة التي صاحبت هذه الجماهير ويمكن وصفها بالعلمانية، وإن كانت تتبرأ من هذا التوصيف إما تقية وإما لإدراكها حقيقة دخيلتها ومرجعياتها الفكرية الحقيقية المختفية خلف غلالة كثيفة أو شفافة من شعارات الحداثة والتحرر، هذه النخبة مفتتة إلى شراذم ما بين الناصرية واليسارية، وربما لا يجمع بينها غير العداء للآخر الرأسمالي الإمبريالي والصهيوني وفق مفردات خطابها الموروث عن زمن الستينات، ولا تعرف لها أيضاً طريقاً تسلكه، غير أحلام الماضي المجهضة ورؤاه الفاشلة بجدارة، وعداواته الأبدية مع العالم الحر المفترض فيها التعلق بأذياله.
وإذا كنا نتهم الإخوان المسلمين بالحق أو بالباطل بأنهم يمارسون quot;التقيةquot; أو quot;الإيهام في القولquot;، فيقولون لنا على سبيل التخدير والتنويم ما لا يضمرونه حقيقة، مقابل خطاب السلفيين الواضح شديد الفجاجة والتعصب، لكنه يعبر بالفعل عما تضمره سائر التيارات الإسلامية بداية من المدرسة الأولية (الإخوان المسلمين) حتى تنظيم القاعدة، فإن رموز العلمانية - إن كان هناك علمانيون بالفعل في مصر وسائر دول المنطقة- هؤلاء يمارسون quot;التقيةquot; بصورة متهافتة وفاشلة تكتيكياً، حين يجبنون عن تبني قضية العلمانية والحداثة، عبر الجهر بما كنا نطالب به بكل يسر قبل طوفان quot;الربيع العربيquot;، وهو الفصل التام والقاطع بين الدين والدولة، ويلجأون للف والدوران حول النفس، ليصيبهم الدوار بداية وقبل أن يضربهم الإسلاميون بتكفيرهم أو بجنازيرهم وخناجرهم ومتفجراتهم، فماذا يمكن أن يكون مصير قضية لا تجد رجالاً بحق يدافعون عنها، مقابل رؤى التخلف والظلام والإرهاب التي يدفع الآلاف أرواحهم من أجل تحقيقها؟!!
ليس كون الشعوب مسلمة مبرراً للصفوة لتتخذ هذا الموقف الجبان خشية من تبني العلمانية وتحاشي التبشير بها بوضوح وعلانية، فها هي جارتنا اللصيقة تركيا المسلمة ومعقل آخر خلافة في التاريخ الإسلامي تتبنى علمانية واضحة صريحة، ورأينا رئيس وزراء حزبها الإسلامي في مصر وهو يفاجئ دراويش التأسلم المصريين بدعوته للعلمانية، فالمشكلة إذن أو العقبة ليست في الدين ولا في الشعوب، ولكن في النخبة المناط بها في كل الشعوب فتح طرق جديدة وحداثية أمام شعوبها، هي في نخبنا الهزيلة الجبانة والمنافقة المتسلقة.
فها هو مثلاً باحث شهير أظنه محسوباً على الليبرالية يقول في مستهل مقال له: quot;أنا مع تطبيق الشريعة كما جاءت فى القرآن الكريم وكل ما لا يخالفه مما نُسب إلى الرسول الكريم من أقوال، وكل ما تواتر عنه من أفعالquot;، ثم يشرع في سائر المقال (بمحاولات فاشلة ومتهافتة) في تفريغ ما أقر به بداية من مضمونه، عبر رفض مرجعية ما اعتبره اجتهادات فقهية بشرية كانت مرتبطة بزمانها ومكانها، لأجدني مضطراً لأن أقول له: من حقك يا عزيزي كمسلم أن تطبق الشريعة الإسلامية على نفسك في حياتك الخاصة، لكن ليس من حقك المطالبة بتطبيقها على وطن يحتوى مختلف الأديان والتوجهات، هذا بالطبع علاوة على أن الشرائع والقوانين التي تطبقها دولة حديثة هي متغيرات تقوم على تحقيق المصالح المتغيرة وفق الظروف المتغيرة، وليس على تفضيلات إيمانية مقدسة وثابته، فهل تعلم هذا يا صديقنا الباحث المجتهد؟!!
تكتيك قبول الجذر والتلكؤ هروباً منه بالتقافز على الأفرع هو عبث محض، وسعي ذاتي لهزيمة قضية الحرية قبل صفارة بداية المباراة، من العبث قبول ربط القوانين والنظم المتعلقة بالمصالح المتغيرة بنص ديني ثابت ومقدس، بذات قدر العبث في ربط القوانين والعلاقات المجتمعية بنص أيديولوجي أو فلسفي أو علمي ثابت، فلا ثبات في عالمنا إلا لقانون التغير والتطور.
المهم أنه في مقابل التيارات الإسلامية التي تعرف بدقة ما تريد، وفي أذهانها خطة طريق لتحقيقه، فرع منها يذهب باتجاه العنف والقتل جهاداً في سبيل الله، وفرع يستخدم quot;ديموقراطية المرة الواحدةquot; كما يستخدمون المناديل الورقية على حد تشبيههم، نجد الطرف المقابل المسمى مدني هائماً في دنيا الشعارات المتشظية، ولا يتفق فيما بين شراذمه على أي خطوة أو حتى وجهة يتجهها، لتصير الجماهير أشبه بخراف ضالة لا تعرف لها حظيرة تتوجه إليها، ومن هنا ينتفي العجب إذا ما ذهبت إلى حيث تشير لها عصا الراعي الدينية، ليقودها ولو إلى أنفاق التخلف المظلمة.
هل سيأتي يوم قريب أو حتى بعيد تدرك فيه شعوبنا أن العلمانية الكاملة والواضحة الصريحة هي بر الأمان الذي علينا أن نعبر مستنقعاتنا الموحلة لكي نصل إليه؟!
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات