كتابة وثيقة دستورية لأي شعب تعني استخدام عناصر من تربة الحاضر لتشكيل بناء يحدد معالم المستقبل، وبالأكثر توضع في الدستور بذور أحلام الحاضر لتثمر أشجارها في المستقبل، وفي جميع الحالات فإن الدستور كيان مستقبلي هو ابن للحاضر، والحاضر المصري الآن أبعد من أن يكون صالحاً أو مبشراً بولادة دستور يتجه بمصر صعوداً نحو التقدم والحرية والحداثة، فمصر تمر بحالة سيولة وفوضى، قد تكون فوضى خلاقة أو فوضى مدمرة، فكيف يكتب شعب دستوراً وهو لم يحسم أي من خياراته، حيث يختلف المصريون الآن على الصغيرة قبل الكبيرة من قضاياهم الحياتية، بداية من تحية الصباح، إن كانت quot;صباح الخيرquot; أم quot;السلام عليكمquot;، والاختلاف حول قرارات تبدو لأمم أخرى بديهية لا تستدعي اختلافاً، مثل تحديد موعد لإغلاق المحلات التجارية، مروراً بالموقف من الباعة الجائلين الذين يحتلون الشوارع ولا يكادون يتركون حيزاً للمارة والسيارات، كما يختلفون على سن زواج البنات إن كان تسع سنوات أو ست عشرة سنة، وإن كان عليهم أن يستأصلوا الأنوثة منهن بالختان أم يتركونهن على الوضع الذي خلقن عليه، صعوداً إلى الاختلاف حول وضع المصريين المسيحيين، إن كانوا مواطنين كاملي الحقوق، أم هم أهل ذمة ينبغي أن يدفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون، أم هم كفار أعداء الله ورسوله ويجب قتالهم وقتلهم، حتى مفهوم الوطن ذاته يختلفون إن كان يصح الانتماء إليه أم أن الوطنية كفر، وأن الانتماء الواجب هو لخلافة إسلامية تشمل الكوكب الأرضي كله، حتى نصل إلى الخلاف إن كانت السيادة للشعب عبر الديموقراطية أم هي لله عبر هيمنة نوابه أصحاب العمائم واللحى.
- آخر تحديث :
الدستور المصري يصعد للهاوية
في مثل هذه الظروف تكون عملية كتابة الدستور مجرد جزء من الصدام والفوضى التي تضرب أطنابها في البلاد، وأي خطوة نحو إخراج دستور بهذا الشكل بمثابة تأبيد للتخبط والتخلف والظلامية. . لا أحب أبداً أو أحبذ المقاطعة لأنها دليل ضعف وعجز، لكن يكفي إلى هذا الحد مشاركة الرموز الوطنية في الجمعية التأسيسية للدستور، وعليهم الانسحاب الآن وفوراً احتراماً لأنفسهم ولما يمثلونه، فالدستور الذي يجري الآن طبخه ليس بأي حال دستور الشعب المصري المحب للحياة والمتطلع لمستقبل أفضل، وإنما هو دستور خريجي السجون المطاردين فكراً وشخوصاً من العالم أجمع، الذين أطلقهم علينا quot;الربيعquot; أو quot;الشتاءquot; العربي، ليشرعوا عن طريق السلطة والتهديد بحرق البلاد في تحقيق ما فشلوا فيه باستخدام المتفجرات والخناجر.
ما يبدو الآن خلافاً بين الإخوان المسلمين وبين السلفيين على الدستور ليس خلافاً بين الاعتدال والتشدد، لكنه خلاف بين دستور الإخوان الذي يضع القطار المصري على قضبان تتجه للدولة الدينية، وبين الدستور الذي يريده السلفيون حفرة يسقط فيها القطار الآن وفوراً منقلباً على وجهه في هاوية التخلف والظلام الحالك، لذا فالدوران حول الذات والتحايل بالنصوص التي قد تعني الأمر ونقيضه لا تفيد في هذا الجو الذي يسيطر فيه دعاة العودة للخلف على مفاصل الدولة وعلى الشارع المصري، مستغلين التدين الفطري للشعب المصري، بإيهامه بأن القضية هي الإسلام أو الكفر، وأنهم هم من يدافعون عن الإسلام في مواجهة الليبراليين والعلمانيين الكفار أعداء الله!!
ذلك المزاد المفتوح بين دعاة الظلمة باختلاف تكتيكاتهم، بين المواجهة الصريحة الفجة التي يمثلها السلفيون، وبين المراوغة الثعبانية التي يتقنها الإخوان المسلمون، تجعل المخلصين بحق لقيم الحرية والحداثة وحقوق الإنسان يرفضون الانسياق لكلا الخيارين، ويرفضون رفضاً باتاً أي ذكر للأديان وشرائعها بالدستور المصري، فالدين قناعة وإيمان شخصي يطبقه الإنسان في علاقته الخاصة مع ربه، أما العلاقات بين الناس فلا تكون إلا بالتراضي والتوافق الحر بينهم بما يحفظ مصالح جميع الأطراف، دون أن تفرض أغلبية رؤاها أو شرائعها على أقلية، وكذا الأمر في علاقات الدولة الخارجية مع سائر الدول، أي فيما يعرف بالقانون الدولي والعلاقات الدولية، والتي يجب ويتحتم أن تحقق مصالح جميع الدول بغض النظر عن أيديولوجيتها أو دين غالبية سكانها أو حجمها السكاني وقدرتها العسكرية والاقتصادية، وأي توجه مضاد لذلك هو سعي نحو التخلف والفوضى والصدام الداخلي والخارجي.
ما تمارسه التيارات الدينية من ضغوط لحصر التقنين في الشريعة الإسلامية هي دفع لمصر لمستقبل مأساوي يهدد بانهيار الدولة المصرية وخراب الوطن، ولا يعتد هنا بما يحتج به أصحاب الأغراض المعروفة المفتضحة من استفتاء الشعب على وثيقة دستورية لا يعلمون عنها إلا ما سوف يلقنونه للجماهير من أن quot;نعمquot; تعني الانتصار للإسلام، وأن quot;لاquot; تعني الموافقة على الكفر والإنحلال والفساد، وهل يصلح الشعب المصري للتصويت على دستور، أليس أقصى ما يستطيعه المسلم المصري هو التصويت بنعم على أنه يحب الله ورسوله، ويصوت القبطي بنعم على أن المسيح هو ممثل الأنبا شنودة في السماء؟!!. . هنا لا موجب للتعجب من تلك التصريحات التي يطلقها مثلاً أساقفة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية توافقاً واتفاقاً مع أشد رموز التيارات الإسلامية تعصباً وجاهلية، فالجميع يعادي العلمانية لأنها ستقوض ممالكهم وسلطانهم، وهي التهديد الجدي لقداستهم التي تجلب لهم ثروات الملوك وسلطان الأباطرة، فدولة حديثة حرة ومتقدمة لا مكان فيها لأصحاب الفضيلة والقداسة إلا داخل معابدهم، يرفعون فيها الصلوات، دون ذهب المعز وسيفه.
لا أعرف أن هناك بالفعل من يرفض العلمانية، فقط أعرف من هو غير مؤهل لها ولا يطيقها، هنا تكون العلمانية هي التي ترفضه، وما رفضه المظهري لها إلا ترجمة للعجز عن استيعاب حقائق العصر وقيمه ورؤاه، وإذا كان حقاً أن الوعي بثنائية quot;الحلال/ الحرامquot; يقودنا للجنة في الحياة الأخرى، وهي ما يحتاجه الإنسان المؤمن بالفعل، فإن الوعي بثنائية quot;الصواب/ الخطأquot; يعيننا على تحويل هذه الحياة الدنيا إلى جنة، لكن الاحتياج إلى الثنائية الأولى لابد وأن يرتبط بالثنائية الثانية، فبدون الالتزام بثنائية quot;الصواب/ الخطأquot; في حياتنا، أو بخضوع الأخيرة لثنائية quot;الحلال/ الحرامquot; سوف تخرب حياتنا، وإذا ما خربت حياتنا الدنيا فلا أظن أن عاقل يتصور أن أمة فاشلة في الدنيا سيكون لها مكاناً طيباً في الحياة الأخرى.
على القوى المدنية إذن أن تتوقف هنا، وألا تنساق باسم السياسة والوسطية إلى الانجراف تطوعاً وموافقة حتى حافة الهاوية المعدة لنا، فأن نذهب للهاوية مرغمين وتحت سيطرة الإرهابيين المدجيين بالخناجر والمتفجرات، أفضل من نركع من تلقاء أنفسنا، ليقذفوننا أمامهم بالأقدام لنتدحرج حتى ذات النقطة، ففي جميع الحالات مصر ذاهبة إلى مصير أسود، فلا يوجد بمصر جماعة منظمة ذات أيديولوجية ورؤية لمستقبل البلاد غير جماعة الإخوان المسلمين، وغيرهم شتات لا يجمع بينهم فكر حقيقي أو وحدة تنظيمية، وبما أنه قد اتضح منذ وصول الإخوان للسلطة أن مصر كبيرة جداً عليهم، وأن أقصى مقدرتهم هو توزيع سكر وزيت على الغلابة وسوق النساء للتصويت لهم، إذن فعلينا أن نتوقع فوضى عارمة تضرب أطنابها في سائر أنحاء البلاد، وأن تصل مصر إلى حالة قد تستدعي إقدام القوى العالمية والأمم المتحدة التدخل لإنقاذها.
التعليقات