يكاد يجمع دعاة الحداثة والدولة العلمانية في مصر على التسليم بتمكن تيار التأسلم السياسي من السيطرة على البلاد في المرحلة الحالية، انتظاراً لانقلاب في موقف الشعب يتنبأون به بعد سويعات قد تطول أو تقصر، نتيجة لما يتوقعونه من فشل ذريع للدولة الدينية التي يجري الآن تشكيلها. . يرجع هذا الموقف بداية لما نسميه quot;قلة الحيلةquot; والكسل العقلي والعملي والسلبية المعتادة لدعاة التنوير، مقارنة بالحماس المحموم للتيارات الظلامية، والذين يعتبرون رسالتهم سمائية وجهاداً في سبيل الله.
ربما هذا هو ما يدفع دعاة الحداثة للاسترخاء المصحوب بثقة العلماء، والأخذ في قراءة المستقبل وكأنهم يقرأون فنجاناً لا تخيب نبوءاته، أو يستنتجون من نظرية علمية لا يأتيها الشك، أن الجماهير بخيارها الأسود هذا إنما في الحقيقة تسير في الطريق الذي ستؤدب فيه نفسها بنفسها، بأن تتجرع حتى الثمالة من عصير ثمار الخيار الذي فضلته، لتكون النهاية المحتومة أن تقول quot;حقي برقبتيquot; حسب التعبير الدارج، لتستدعي بعد ذلك رموز الليبرالية محمولين على أعناق الجماهير التي تهتف بأسمائهم بملء حناجرها!!
الحقيقة أن هذه الثقة النظرية المفرطة بلا مبرر حقيقي ترجع إلى تصور نظري لقدرة الديموقراطية على تصحيح أخطائها بنفسها، كما تندرج ضمن وهم شائع روج له ما فهمه البعض من كتابات أمثال فرانسيس فوكوياما، من أن للتاريخ صيرورة غائية تصل بنا إلى نهايته وهي الديموقراطية الليبرالية، بمعنى أن quot;كل الطرق تؤدي إلى روماquot;، وروما هنا هي الوصول لمجتمع ليبرالي حداثي ديموقراطي، حتى لو وصلنا لهذا عبر المرور بجحيم أربعة عشر قرناً مضت، لنقفز بعد ذلك مباشرة إلى القرن الواحد والعشرين، هذا بالطبع إذا تصادف أن تمت عودتنا في هذا القرن، وليس في قرون تالية!!
نعم نوافق على ما جاء به فوكوياما في كتابه نهاية التاريخ والإنسان الأخير من أن الديموقراطية الليبرالية هي ذروة التطور الإنساني، لتكون هي بهذا المعنى بالفعل نهاية التاريخ، لكن هذا لا يعني بأية حال أن هذه النهاية هي قدر محتوم للإنسان أو لكل الشعوب، تماماً كما أن الأمر ليس كدورات الليل والنهار، بحيث أن الفجر لابد دائماً من أن يشرق بعد الليل وإن طال. . فحتى نظرية التطور البيولوجية والمؤكدة علمياً لم تشمل جميع الكائنات حصرياً، فليس كل الخلايا الحية أخذت ذات المسار لتصبح الإنسان الكامل درة الوجود، فها نحن نرى مليارات الكائنات عجزت عن تخطي مراحل مختلفة من التطور، بما ينفي هذه الثقة المفرطة والمدهشة التي يبدو بها خطاب الخاسرين في معركة الحداثة المصرية، بعد أن ذهب أغلب الشعب المصري خلف من يعدونه بمفارقة العصر وقيمه.
من الناحية العملية أيضاً لا موجب في الحقيقة لأن نتعشم خيراً في تكتيك quot;دعهم يحكمونquot; وسوف ينقلب الشعب عليهم يوم يفشلون، فالأمر ليس بهذه البساطة، فمن استطاعوا بشتى السبل خداع الجماهير وإيهامها بأنهم رسل السماء ونواب الإله على الأرض، لن يقفوا مكتوفي الأيدي مكممي الأفواه أمام فشلهم المتوقع، أو يقروا ويعترفوا بأنهم ضللوا وكذبوا وتاجروا بثقة وآمال البسطاء وبكلام الله.
سوف يزايدون على العلمانيين المشاركين في مواقع التنفيذ، مقدمينهم أكباش فداء مستحقة للفشل، علاوة على الاستعداد الفطري لدى الناس للميل لنظرية المؤامرة، فالفشل لابد وأن يكون مصدره المؤامرات التي يحيكها أعداء الإسلام لمصر الإسلامية، ولدينا شيطان الصهيونية العالمية والإمبريالية الأمريكية حاضر دوماً في الثقافة والخطاب العروبجي واليساري وليس الإسلامي فقط. . أيضاً سوف يزايدون على بعضهم البعض، وفي البيئة المنغلقة التي سيحكمون بها علينا ستترعرع الاتجاهات الأكثر تطرفاً، لتعزي الفشل الحادث إلى عدم الالتزام التام بحكم الله، ليخرج علينا من هم أشد جهلاً وظلاماً لإقناعنا أننا لم نوغل في جهالتهم وظلماتهم بالقدر الذي يحقق لنا النجاح والفلاح ورضاء الله!!
من المهم أيضاً الانتباه إلى أنه في بيئة مظلمة يسيطر عليها نواب الله لن تنمو تيارات علمانية وتؤسس لها قاعدة منظمة شعبياً، فسوف يضربون المجتمع المدني، علاوة على المتوقع والذي بدأ من الآن في محاصرة الإعلام واتهامه بأنه إعلام شيطاني وفاجر وفاسق وكافر، ولا يستثنى من ذلك الإنترنت الذي استهلوا عصرهم بمنع ما أسموه المواقع الإباحية، بما لابد وأن يعد غلقاً لنوافذ التنوير واحدة بعد الأخرى، لتكون النتيجة محاصرة الشعب داخل منظومة ستار حديدي باسم الإيمان ومحاربة الكفر والفجور.. سيتم أيضاً وبالتدريج إحلال الكوادر الظلامية في كافة المؤسسات ذات الصلة بالجماهير، ولننظر مثلاً إلى تشكيل لجنة التعليم بمجلس الشعب الآن، لندرك حقيقة مستقبل التعليم في مصر، ومعه مدى إمكانية تطور الوعي إلى الأفضل، وليس إلى الأسوأ.. ليس من البساطة مغادرة طريق السقوط متى تقدمنا فيه ولو خطوات قليلة.
يقولون أن أخطاء الديموقراطية لا تصحح إلا بالديموقراطية، وهذا كلام رائع من عقول أكثر روعة، تجلس في الغرف المكيفة لتبدع حلولاً لمشاكل الشعوب جميعاً، دون مراعاة للتباين الهائل بين طبائع الشعوب وثقافاتها وظروفها الحياتية.. هي وسيلة ناجحة للانتحار أن توظف دون تدبر أو تمعن في الأمر آليات الديموقراطية في مجتمع تغيب عنه تماماً قيمها وثقافتها، بأن تذهب لشعب لم يتعود في حياته حتى الخاصة أن يفكر لنفسه، ويلجأ إما للمشايخ والقسوس ليستفتيهم في أدق دقائق حياته، أو للاتباع الآلي للسائد من عادات وتقاليد ترجع لعشرات القرون الماضيو.. من أين لهذا الشعب وقد فاجأناه بديموقراطيتنا المزعومة أن يستطيع البت في أمر دستور أو تعديلات دستورية، أو اختيار نواب لمجلس تشريعي لا يكاد أحد يفهم بالتدقيق طبيعة مهامه والشروط الواجب توافرها في أعضائه؟!
أي عقلانية أن يتحدد عن طريق صناديق الاقتراع مصير أمة ذات عقلية خرافية عريقة، فمن يعجز عن التفرقة بين الحقائق والخرافات والأساطير، وتذهب كل طائفة فيه وراء دجاليها، الذين يداوون بالرقى والتعاويذ ويخرجون العفاريت أو الأرواح الشريرة من الأجساد، هؤلاء الذي صاروا الآن نجوماً بالقنوات التليفزيونية الفضائية، كيف لشعب هذا حاله وهذه عقليته تبين السياسي المستنير من الظلامي، والصادق من المخادع، وكيف يستطيع المقارنة بين ما يعرض عليه من برامج انتخابية وتنموية؟
تشير نتائج الاستفتاءات والانتخابات المصرية إلى أن الشعب يتجاهل من يخاطبونه بشعارات quot;الشعب البطلquot; وquot;الشعب المعلمquot; وسائر عبارات النفاق المنقطع الصلة بالواقع، وذهب لمن يقولون له أنت quot;شعب كافرquot; ما لم تصوت لنا، ولن تكون مسلماً إلا إذا حكمناك، وأن quot;الإسلام هو إسلامنا نحنquot; لا إسلام آبائك وأجدادك عبر أربعة عشر قرناً مضت، بل وتمادى أحد كبار رؤوس هؤلاء إلى حد إعداد وثيقة نوايا للبلاد سماها quot;وثيقة فتح مصرquot;، فهذا المجاهد العظيم يريد في القرن الحادي والعشرين quot;فتح مصرquot;، وكأن عمرو بن العاص لم يفعلها في القرن السابع، وكان على الإسلام لكي يدخل مصر أن ينتظر أربعة عشر قرناً حتى يأتي هذا الشاطر ليفتح البلاد!!
الجماهير التي أصغت لهؤلاء وأعطتهم صوتها ابتغاة مرضاة الله، وخوفاً من نار جهنم التي يهددونها بها، لن تنقلب عليهم بالسهولة أو السذاجة التي يتخيل بها الأمور أصحاب تكتيك quot;دعهم يحكمونquot; ، فليس هناك حدود لخداع ولزوجة خطاب قام بالأساس على المخادعة ودغدغة العاطفة الدينية لدى أكثر الشعوب تديناً في العالم، ولدينا أكلاشيهات جاهزة ومعدة للاستخدام في الثقافة الشعبية، يستطيعون التصدى بها للفشل الذي يتوقعه أعزاؤنا دعاة الدولة المدنية، فلدينا أن quot;المؤمن منصابquot;، وquot;الضر ابتلاء من الله لعبده المؤمنquot;، كما لدينا أننا quot;بعنا الدنيا لنشتري الآخرةquot;، ولنلاحظ أن هذه الحكم مصرية صميمة، بدليل وجود مثيل متطابق معها في الخطاب القبطي مثل quot;من يحبه الرب يجربهquot; وquot;ليس لنا هنا مدينة باقية لكننا ننتظر العتيدة في السماوياتquot;!!
نعم نحتاج لحوار أو حتى صراع مجتمعي ووطني قد يتخذ أحياناً صوراً ساخنة، لكي نستطيع الخروج إلى عالم وثقافة جديدة تتواكب مع العصر، لكن هذا لن يتأتى إلا في ظل نظام يسمح بالتعددية والحوار المحكوم بضوابط الشرعية القانونية والدستورية، أما إذا دخلنا نفق الدولة دينية، فسوف ننحدر من السيء إلى الأسوأ دونما أمل حقيقي في إمكانية التراجع أو الارتداد.
نحتاج بالتأكيد لثورة ثانية، لكن لكي تكون هذه الثورة بحق سعياً للحرية والكرامة الإنسانية، ولا نكرر بها ما حدث لثورة 25 يناير، علينا أولاً أن نحسم خياراتنا على مستوى الجماهير والنخبة، وأن تتواجد بالشارع قوى حقيقية تساند الرؤى الحداثية وتحميها من غيلان الظلمة والجهالة.. نحتاج فرصة أخرى عبر مرحلة انتقالية، تستطيع فيها قوى الحداثة أن تنفض عنها تخازلها وتتدارك أخطاءها، علها تستطيع أن تجد لها مواقع أقدام حقيقية في الشارع المصري، وعندها نستطيع أن نقوم بثورة نرفض فيها ما هو قائم، ونحن نعرف تحديداً ماذا نريد، كما نعرف السبل الكفيلة بتحقيقه. . سأبدأ شخصياً من اليوم التبشير بهذه الثورة، ليس استعجالاً لقيامها، ولكن استنهاضاً للهمم لاستزراع وتنمية مقوماتها الفكرية والمادية.
الولايات المتحدة- نيوجرسي
[email protected]