لا يحتاج الإسلام لمادة بالدستور تحميه وتثبته في قلوب الناس، كما أن خلو الدستور المصري من مادة تنص على المسيحية لم ينتقص من تمسك الأقباط بمسيحيتهم، ولا نعتقد أو يعتقد أي أحد بالطبع أن المسلمين أقل إيماناً والتزاماً بدينهم، حتى ينبري أحد حماية للدين بالنص على وجوب الالتزام به في الدستور. . الملايين من المصريين المؤمنين لا يعرفون أساساً كثيراً أو قليلاً عن الدستور، لكنهم يعرفون ويؤمنون ويلتزمون بدينهم بأشد ما يكون الالتزام.. . ولكن المادة الثانية من الدستور المصري والتي تنص على أن quot;دين الدولة الإسلامquot; يستخدمها المتاجرون بالدين لطموحاتهم الخاصة، وحذفها من الدستور لن يضر قضية الإيمان والتقوى الدينية، وإنما فقط يقطع الطريق على من يريدون تنصيب أنفسهم أوصياء على الناس ونواباً عن الإله، ويوم يتحرر المصريون مسلمين ومسيحيين من تأليه رجال الدين والسير خلفهم منومين مغناطيسياً، عندها فقط يمكن لهم الحديث عن الحرية والديموقراطية والكرامة الإنسانية، أما قبل ذلك فالمقر هو حظائر القطعان المطيعة الصاغرة. . الديموقراطية تعتمد رأي أغلبية من مجتمع من الأحرار، أما الديماجوجية فهي تعتمد رأي أغلبية مجتمع من رعاع، ينقادون لمن يخاطب غرائز الخوف أو الطمع، أو لمن يجيد اللعب بالمشاعر الغضبية أو الدينية. . كان ملوك أوروبا في عصرها الوسيط يقولون quot;أنا الدولةquot;، كذا حال مصر في عصرها الوسيط، نجد من يقول quot;أنا الإسلامquot; وquot;أنا المسيحquot; أو نائبه على الأرض. . جميعنا منبطحون، وحديث المنبطحين عن الحرية والكرامة الإنسانية من قبيل الهزل وليس الجد.
إعلان quot;مصر دولة علمانيةquot; هو نقطة البداية لوداع القرون الوسطى ودخول عصر الحداثة والتطور والرفاهية. . عندما نحدث الناس عن العلمانية لا نكون بذلك نجرح مشاعرهم، كما لا نجرح مشاعر التائه إذا قمنا بإرشاده للطريق الصحيح، فالأمر ليس بالأساس أمر مشاعر تجرح، لكنها الزلزلة التي تنتاب من تعود طوال حياته أن يستمع بخنوع لرأي واحد يدعي لنفسه صواباً مطلقاً، ثم يأتي العلمانيون ليحرضوه على البحث بنفسه عن الحقيقة، هو يستشعر هنا أن الأرض مادت وتشققت من تحت قدميه، وأنه خرج من دفء اليقين إلى العراء العاصف والسماء الملبدة بالغيوم. . حتى لا نتقاعس أو نستحي من مخاطبة الناس عن العلمانية، علينا أولاً أن نتأكد أننا لا نستحي منها بيننا وبين أنفسنا، وأننا نؤمن حقيقة بأهمية العلم في حياتنا، وأننا بدونه لابد سنسقط من قطار الحضارة الإنسانية لتدهسنا عجلاته، وأن الإيمان قضية شخصية لها كل الاحترام، باعتبارها علاقة بين الإنسان وربه، وهو وحده من يحاسبه عليها ثواباً أم عقاباً.
بالتأكيد لسنا الآن في مرحلة يمكن فيها التفكير أو الحديث عن العلمانية كأساس لبناء مصر الجديدة، رغم أن رحلة البناء كان من المفترض أن تبدأ الآن وبعد عام ونصف العام من الثورة المصرية، لكن هذا ما حدث أن تشاركنا جميعاً كل بنصيب في السلوك بثورتنا طريق قد يكون بلا عودة، ليكون علينا إعادتها إلى حيث يمكن أن نتفكر ونعيد حساباتنا، دون أن تلهب ظهورنا سياط التكفيريين والجهاديين.
نحتاج بداية ولكي لا نقمع أنفسنا بأنفسنا أن ندرك أن الليبرالية التي لابد وأن تكون منهجنا في كل خطواتنا نحو العصر وقيمه ليست quot;مولد وصاحبه غايبquot; كما يقول المثل الشعبي. . هي أشبه بلعبة كرة القدم، التي يلعب فيها الجميع بحرية ومساواة، لكن هناك قواعد يجب اتباعها، ومن يخرقها قد يحسب عليه خطأ غير مباشر أو مباشر وقد يستحق ضربة جزاء، وقد يستحق إنذاراً أو يطرد من الملعب، كما قد توقع عليه عقوبات مستقبلية تصل أحياناً إلى شطبه من اتحادات كرة القدم المحلية والدولية. . هنا لا يكون الحَكَم الذي يصدر تلك العقوبات فاشياً استئصالياً، فحماية المباراة الوطنية من عبث الخارجين على قوانين اللعبة هو الضمانة الأولى لحرية وعدالة اللعب، ليكون الاستئصال وفق القواعد عملاً من أعمال الحرية، أو فلنقل هو الوجه الآخر من عملة الحرية، فلن أستطيع أن أكون حراً إذا كان هنالك من يلبس ثياب الحرية أو يستتر خلفها ويوظف آليات تطبيقها ليصوب الخنجر إلى ظهري، أو يهوي عليه بسوطه!!
ليس من قبيل المبالغة أن نقول أننا بدأنا بالفعل رحلتنا نحو الهاوية، ولننظر مثلاً إلى ما يعد من تواتفه الأمور، والتي قد تكون أحياناً أشد دلالة من عظائمها، الإشاعات التي تتوالى عن زواج القيادات السلفية من فنانات، هي دليل وصول السلفيين مرحلة التمكين، فبغض النظر عن مدى صحة هذه الإشاعات من عدمه، فقد حدث مثيل هذا بعد تمكن ضباط انقلاب يوليو من الحكم، وبدأوا في جني ثمار سيطرتهم نكاح الفنانات، أو فلنقل راجت مثل هذه الإشاعات. . ويترافق مع ذلك ظاهرة التوسع الهائل لإطلاق الرجال الذين لم يسبق معرفة التدين عنهم للحى. . هي الطبقة الجديدة التي تمتلك الآن مصر الثورة، ويسعى الرجال والنساء للحاق بها كل بطريقته!!
ليس أخطر بالطبع مما نشهده من عجز أو تعمد أو عدم تحمس لتطبيق القانون، ذلك الذي امتد من جرائم الاعتداءات الطائفية على الأقباط إلى سائر مناحي الحياة. . في سيناء وما يرتكبه البدو من جرائم خطف وقتل وتهريب للسلاح والمخدرات، ومن يقال أنهم عناصر تابعة لتنظيم القاعدة ويتركون رسائل واضحة بعد تفجيراتهم المتتالية لخط الغاز المصري، وفي بورسعيد وما فعله الغوغاء في مباراة لكرة القدم، بالإضافة بالطبع للجرائم ضد شباب الثورة، وما يفعله التيار الديني من احتقار للقوانين التي يسمونها قوانين وضعية، والعصف بها في شتى المواقع والمناسبات. . هل أصحبت مصر بركة آسنة لا تزدهر فيها غير الديدان والهوام؟!!
كان عبد الناصر قد روى في خطاب جماهيري له، أن ما كان يطلبه الإخوان منه للتوافق معه هو تحجيب النساء، وروى السياسي المصري د. مصطفى الفقي أخيراً في حلقة تليفزيونية عن ذكرياته أن ما طلبه الإخوان من مبارك هو تخلي الدولة عن ملكية مصانع الخمور ودور السينما. معارضتهم إذن لم تكن يوماً من أجل ضبط أداء الحاكم لتحقيق العدالة الاجتماعية والحرية، وإنما لتحريضه على التحكم في حياة الناس الشخصية، وهذا ذات ما ظهر منهم منذ سيطروا على البرلمان فيما يناقشونه من قضايا حجب مواقع إنترنت وقوانين لتقييد التظاهر والحبس في قضايا النشر والبقية تأتي.
هم ليسوا إذن بأي حال جزء من ثورة شعب في مواجهة حاكم، وإنما ثورة على الحاكم في مواجهة شعب. . هكذا أيضاً كان قمع الحكام لهم على مدى العصور لحماية الشعب منهم، وليس لحماية الحكام لأنفسهم، فالإخوان ورجال الدين عموماً يريدون دوماً المركز الثاني الذي يوجه الحاكم، وما كان أسهل على الطغاة الذين تناوبوا حكم مصر خلال ستة عقود الماضية من أن يوافقوا الإخوان على ما يضمرونه من رؤى متخلفة تصيب الحياة المصرية بالعقم، فيأمنون شرهم ومؤامراتهم، لكنهم لم يفعلوا رحمة بمصر والمصريين، وإن اختلفت درجة جديتهم في قمعهم خلال العهود الثلاثة الماضية، فمن حسن حظ الإخوان المسلمين وسوء حظ الشعب المصري، أن السادات ومبارك لم يكن لهما ذات استقامة ورجولة عبد الناصر في حماية مصر وتطهيرها من وباء التخلف والظلامية، من هؤلاء الذين لا يتورعون عن حرق مصر كاملة، كما سبق وحرقوا القاهرة في يناير 1952، ويعترفون ويفتخرون بأنهم لا ينتمون لوطن لأنهم جند الله!!
الطريق الوحيد الآن أمام دعاة الحرية الحقيقيين والراغبين في إنقاذ مصر وأجيالها القادمة من السقوط في هاوية التخلف والإرهاب هو الاستناد إلى قوة الجيش المصري، التي يعد حمايتها للبلاد داخلياً جزءاً لا ينفصل عن مهمة حمايتها من التهديد الخارجي، فالعداء المطلق للمجلس العسكري الشائع لدى البعض الآن يماثل الفخ الذي نصبه الإخوان المسلمون والسلفيون لنا بالعداء المطلق للداخلية، فجنينا نحن انهيار الأمن، وجنوا هم خروج المسجونين الإرهابيين والسيطرة على البلاد.
قد نحتاج بداية لتذكير من يعنيهم الأمر أن أروع ما في جماعة الإخوان المسلمين والجماعات المنبثقة عنها، أنها تقوم بنفسها وفي أسرع وقت ممكن بإنزال أشد العقاب على كل من يتحالف أو يعقد معها صفقة، فعلوا هذا بالسادات الذي أخرجهم من السجون ومكنهم من الشارع المصري، وبأمريكا التي رعتهم في أفغانستان، وفعلوه مع مبارك حين أتيحت لهم الفرصة!!
المطلوب ليس استعداء العسكر على التيار الديني، ولا الوقوف بجانبهم في مواجهتهما معاً، لكن المطلوب هو إصلاح العسكر لما أفسدوه بالتجاوز للدستور والقانون بالسماح لأحزاب دينية، وبما يتتالى من إعادة محاكمات تصدر أحكام براءة للإرهابيين، مما يشيع ضباباً على مصداقية القضاء المصري في الماضي والحاضر. . إذا كنا نقول أن الساحة المصرية شهدت استهانة بالقانون في عهد مبارك، فإن العسكر قد عصفوا بالقانون وابتذلوه في توظيفات عكسية تذهب بنا للهاوية. . هكذا عندما تطالب طرفاً هو المسؤول الأول بالبلاد بإصلاح ما أفسده، لا نكون كمن يستجير من الرمضاء بالنار كما يتصور البعض، كما لا نكون فاشيين أو دعاة للديكتاتورية العسكرية كما يتصور البعض الآخر.
أظن أن جهاز الأمن الوطني يعلم تحديداً إن كان لدى الإخوان أو غيرهم ميليشيات عسكرية مسلحة أم لا، وأظن أن الجيش والشرطة المصرية قادرة على اتخاذ الموقف المناسب من هذا الوضع الخطير إن كان تواجد هذه الميليشيات حقيقياً. . المشكلة فيما أعتقد هي في توافر الإرادة السياسية. . أيتها السياسة المصرية عليك اللعنة!!
مصر- الإسكندرية
[email protected]