بادئ ذي بدء
كلما أبدى المجلس العسكري بادرة تشير لتصحيح ما أفسده، سارع بالتراجع عنها رغم قبضته القوية على البلاد، هو يطلق بالوناته ثم يسارع بتفجيرها فور تكشير الظلاميين عن أنيابهم، كأنه معني فقط بتأمين ذاته وبقايا النظام القديم، فانتزع الثورة من بين أيادي شبابها، وسلمها بخديعة الانتخابات لملاليين مغيبة ومختطفة من قبل غربان وذئاب الظلام. . لم يكن سؤال الثورة مطروحاً في الانتخابات البرلمانية، ولكن سؤال الخيار بين نظام مبارك وبين الظلاميين صديقه اللدود ورفيق دربه، فجاءت الإجابة واضحة تؤذن بغروب الشمس عن وادي النيل. . أقسى عقاب للجاهل أن تتركه يقرر لنفسه ما يشاء، وهذا هو رد المجلس العسكري وانتقامه الرهيب من الثورة والثوار!!
يتناول الكثيرون في مصر قضية الدولة الدينية من منظور ما سوف يترتب عليها من ظلم وتهميش للأقلية المسيحية، الذين تنقلهم الدولة الدينية من توصيف quot;مواطنquot; إلى توصيف quot;كافرquot; لدى البعض الذي نصفه بالتشدد، أو توصيف quot;أهل ذمةquot; لدى هؤلاء الذين يدَّعون الاعتدال، لتبدو القضية هكذا وكأنها قضية أقلية يعوق وجودها الأغلبية المسلمة عن التمتع بالحياة وفق شرائع دينها، مادام المناهضون للدولة الدينية لا يجدون ما يحتجون به عليها غير ما يمكن أن يصيب الأقباط من غبن. . لنا أن نتوقع كنتيجة لهذه المقاربة أن يتعاطف القلة القليلة عميقة الاستنارة مع مواطنيهم من غير المسلمين، لكن ماذا عن جموع الشعب المصري المتدينة بطبعها، وهي ترى أن السادة الذين يناهضون تيار الإسلام السياسي لا يبدون أي اعتراض على ذلك المشروع، غير التخوف على آخر؟!!. . أليس هذا مبرراً إن لم يكن تحريضاً على تبني ذلك المشروع، وليذهب من يعترض من غير المسلمين إلى الجحيم، أو ليبحث له عن وطن آخر، إن لم يخنع ويخضع لإرادة الأغلبية، ولحقها في العيش بموجب شرائع دينها؟!!
في الدرجة التالية من عمق تناول قضية الدولة الدينية، نستمع لمن يتحدثون عن حقوق الإنسان والحريات الشخصية، حيث تتجاوز الدولة الدينية حدود اختصاصاتها في تنظيم العلاقة بين مواطنيها وحماية خصوصياتهم وممتلكاتهم وتوفير الخدمات العامة لهم، إلى التدخل في حياتهم الشخصية، لتحدد أخلاقياتهم وماذا يعتقدون فيه وكيف يعبدون ربهم، بالإضافة بالطبع لتحديد ماذا يأكلون ويشربون، وتقوم بتربيتهم وبرمجتهم وسيف العقاب والإجبار مسلط على رقابهم وفق رؤاها الأحادية الصارمة والإلهية، والتي يعد أي حيود عنها أو معارضة لها كفراً بواحاً، وخروجاً واعتراضاً على شريعة الله وأوامره ونواهيه، ليصير الإنسان هكذا هيكلاً خشبياً فاقداً للإرادة، يقوم الحكام وكلاء الله على الأرض بحشوه بما يريدون، وبما يرونه كفيلاً بإدخاله الجنة، رغم أن المعروف في كل الدنيا أن وظيفة الدولة ومؤسساتها تنحصر فقط في تنظيم هذه الحياة الدنيا!!
هذه المقاربة وتلك لموضوع الدولة الدينية رغم أهميتها ونبلها، هي كالتركيز على الجزء الطافي من جبل الجليد، وعدم الانتباه للجزء الأضخم والأخطر منه والمختفي تحت الماء، فالقضية ليست فقط وحصرياً أمر مواطنة أقليات وحقوق إنسان، فهذه هي الجزء الظاهر لنا من جبل الجليد، فيما يختفي الجزء الأكبر الذي هو قضية الحداثة، فالدولة الدينية هي حلقة من تاريخ الإنسانية تجاوزته مسيرة الحضارة، بتجاوزها عصور التجمعات البشرية التي تقوم على الانتماء العرقي والديني، ليدخل هذا النوع من التنظيمات البشرية إلى متحف التراث الإنساني في سائر أنحاء العالم المتحضر وشبه المتحضر، ليرثها عصر الدولة الوطنية، التي تقوم على أساس الجغرافيا، بما يمكن أن يضم quot;الوطنquot; من تنوعات عرقية وثقافية ودينية، ليكون quot;المواطنونquot; هم مجموع الملاك للمساحة الجغرافية المسماة quot;وطنquot;، وهم متساوون في حقوق تلك الملكية، بغض النظر عن انتماءاتهم العرقية والثقافية والدينية.
ما قد يبدو للمراقب الخارجي مذهلاً هو ما نراه يترتب الآن على ما سمي quot;الربيع العربيquot;، والذي بدا في نظر العالم صحوة للشعوب العربية، بغية التخلص من أغلال الاستبداد والديكتاتورية، والانطلاق لتعويض ما فات هذه الشعوب من ملاحقة مسيرة الإنسانية دائبة التطور. . المذهل أن تفاجئنا هذه الشعوب باختيارها الحر للمرة الأولى في تاريخها كله، بأن تستدعي أولئك الذين يعدونها بالسقوط في هاوية الماضي.
طريف أن مصر التي سبقت العالم كله في تأسيس أول دولة وطنية في التاريخ، نجدها الآن وكأنها قد أدارت وجهها للخلف، لتمضي في سيرها بعكس مسيرة الإنسانية، لتعود إلى البدايات الأولى للإنسان، فتشرع مع بداية العقد الثاني من الألفية الثالثة في هدم التراكم الحضاري لخمسة آلاف عام، وصولاً إلى العداء المعلن والهزلي لمنجزات الحضارة الفرعونية باعتبارها أصناماً، وأن يأتي هذا السقوط بالتواكب مع دخول البشرية إلى مرحلة لاحقة متجاوزة مرحلة الدولة الوطنية، تلك المرحلة التي نحيا جميعاً الآن في ظلها ولو رغماً عنا وهي مرحلة العولمة، والتي تذوب فيها تدريجياً الحدود الجغرافية والقانونية والاقتصادية والثقافية بين الدول والشعوب، لتبقى الحدود السياسية وحدها، تؤدي دوراً يتضاءل باستمرار، تحقيقاً لصالح الإنسان الفرد، ومن ثم بالتبعية لصالح الإنسانية جمعاء، فتنشأ فوق الكيانات الوطنية كيانات عابرة للقومية، سواء كانت كيانات اقتصادية أم ثقافية أم حقوقية، وصولاً إلى الكيانات المتخصصة في رعاية صحة الإنسان والمحافظة على البيئة وما شابه، جميعها صارت أقوى من الكيانات والحدود السياسية التقليدية، وصارت المواثيق التي تصدرها وتوقع عليها الدول ملزمة لها، بذات قدر إلزامية قوانينها ودساتيرها أو أعلى منها. . لكن ها هو ربيعنا العربي يأتي متوافقاً مع عجزنا عن الإحساس بوقع الزمن، ويأخذنا للسقوط في هاوية الماضي البدائي والوحشي!!
لا نخدع في الحقيقة إلا أنفسنا إذا ما حاولنا الالتفاف على معنى quot;المرجعية الدينيةquot;، بالادعاء أنها لا تؤدي لدولة دينية، فالقول بدولة دينية هو ذاته القول بدولة ذات مرجعية دينية، فالعبارة الثانية مجرد شرح لمعنى العبارة الأولى لا أكثر، فلم نعرف في التاريخ دولة دينية قام فيها رجال الدين بالحكم بأنفسهم مباشرة، هؤلاء ديدنهم الوقوف خلف حاكم مدني أو عسكري، ليقوموا هم بدور الموجه له، أو المبرر لسياساته وممارساته بفتاويهم المقدسة، هكذا كانت أوروبا في العصر الوسيط، وهكذا كانت دولة الخلافة الأموية والعباسية، وهذا ما يحدث الآن تحديداً فيما يسمى جمهورية إيران الإسلامية، فالمركز الثاني لرجال الدين يكفل لهم ميزة التحكم والهيمنة، مع النجاة من المحاسبة على النتائج العملية لتوجيهاتهم، فإذا ما تضررت الجماهير وساءت أحوالها، فإن تذمرها يتجه تلقائياً للحاكم المتصدر للصورة، ويظل رجال الدين في موقع من يتم اللجوء إليه والاستعانة به لرفع الظلم ودرء المفاسد.
إن ما يتهدد مصر الآن نتيجة للمؤشرات الأولى للانتخابات النيابية المصرية، والتي فاز فيها الظلاميون بنصيب الأسد لم يأت هكذا فجأة وبقرار شعبي سري من خلف ظهر السادة الليبراليين والعلمانيين، إنما هو الحصاد الطبيعي لما تم استزراعه في البلاد طوال أربعة عقود فيما بعد المرحلة الناصرية وحتى الآن، فرغم أن دستور الدولة المصرية وقوانينها ونظمها علمانية مدنية كما يصفها فقهاء الدستور والقانون، إلا أن المرجعية الدينية كانت حاضرة في الممارسة العملية وبقوة، عندما يتم استفتاء رجال الدين في كل صغيرة وكبيرة، بداية من معاهدة السلام مع إسرائيل، إلى ضريبة التركات وقوانين الزواج والطلاق والخلع، وزي النساء وعرض الأفلام العالمية محلياً، وما يصدر من كتب وأفلام وأعمال درامية، بل وأبحاث علمية جامعية، بالإجمال ليس ثمة أمر من أمور الحياة إلا ويتم استفتاء رجال الدين فيه، ويستوي في ذلك رجال الدين الإسلامي والمسيحي، هذا عن سياسات الدولة ومؤسساتها، ناهيك عن هيمنة الفكر الديني على الثقافة الشعبية ورؤية الإنسان المصري الفرد لذاته وللحياة.
هكذا كان من السذاجة تصور أن هبة الشباب في 25 يناير بعد أن تم بسرعة دفنها في صناديق الاقتراع الشعبي يمكن أن تؤدي إلى تحرر اجتماعي واقتصادي وسياسي، فالحرية لشعب تملك منه الفكر الديني وحده بلا شريك له، لا يمكن أن تؤدي إلا إلى التفويض الكامل للمتحدثين باسم الإله في كل شئونه، وهذا بالفعل هو ما حدث.
الارتداد الآن إلى الخلف لاعتناق قيم الماضي ونظمه ومؤسساته، لنسير بها بعكس ما يذهب إليه العالم من تطور وتوحد هو المشكلة الأساسية، فمصر بمجموع سكانها ومحدودية مواردها الطبيعية لا تملك رفاهية الانفصال عن العالم، والتميز عنه بنظم وقوانين تعوقها عن التفاعل معه والتماهي فيه، فهي ليست كتلك الدول التي يمكنها أن تنغلق على ذاتها، ولا يعنيها من العالم أكثر من السماح له باستخراج بترولها من باطن الأرض، ومقايضته بكافة مقومات الحياة. . تحتاج مصر لسياح واستثمارات عالمية، وهذه تحتاج بدورها لقوانين ونظم اجتماعية واقتصادية وتعليمية حديثة، تعطي لمصر مكانة تفضيلية في السوق العالمية، على مثال ما حدث في جنوب شرق آسيا ممن نعرفهم بالنمور الأسيوية، وكما حدث في دبي التي صارت عاصمة للعولمة في عصرنا.
هكذا يكون التخوف الأكبر من برلمان الظلاميين الذي يتشكل الآن في مصر، ليس فقط ما يمكن أن يفرضه على عموم المصريين من هيمنة واستعباد وظلامية، وليس فقط ما يتوقع من استهداف للأقليات، ولكن لأن عموم هذا سوف يؤدي كما لو كان سيأخذ البلاد والعباد إلى معتقل يفصلهم عن العالم، ليفرض عليهم المزيد من التغييب والتجريف لمخزونهم الحضاري، ما لابد وأن تكون نتيجته تفاقم الهوة بينهم وبين العالم.
لقد كان السؤال المستتر في أوراق التصويت في الانتخابات النيابية المصرية هو سؤال الحداثة أم الارتداد إلى غابر العصور، وقد جاءت إجابة المصريين واضحة قاطعة، رغم ما يدور في الشارع وأمام المحاكم من دعاوى تزوير وتجاوز وفشل إداري في إدارة العملية الانتخابية. . كانت إجابة المصريين هي خيار quot;للخلف درquot;. . خيار الانفصال عن مسيرة الإنسانية، الذي سيترتب عليه بعد سويعات الوداع لها، لنذهب في رحلة عكسية بعربة الزمن. . لا نستطيع أن نجزم إن كان هذا هو المصير، أم أن هناك من سيستطيع وضع العصي في عجلات العربة المتجهة للهاوية!!
مصر- اسكندرية
[email protected]
التعليقات