وصلنا للمحطة الأخيرة من مجموعة المقالات التي حاولنا فيها بقدر ما يسمح المجال، أن نستعرض المقومات اللازم توافرها في مصر، لتكتمل فيها مسيرة ما اعتبرناه ثورة، والتي بدونها سيكون ما يحدث بالبلاد حراكاً، لا يرتقي لمرتبة ثورة تنقل البلاد من حالة الركود والتعثر في سائر المجالات، إلى آفاق جديدة تتحقق فيها ما تنادي به الشباب، من عيش وحرية وعدالة وكرامة إنسانية.
تناول الجزء الأول مقوم الثوار، واستعرضنا تباين مكوناتهم، وخلصنا إلى أن من يصح أن نطلق عليهم ثوار بكل ما تحمله الكلمة من معان تشير لرفض الماضي وتتطلع لمستقبل جد مختلف، هم تلك النواة التي دعت للثورة وبدأتها، من لقبناهم بشباب الفيسبوك، وهم خيرة وصفوة شبابنا عالي التأهيل العلمي، والمنتمي للطبقة المتوسطة الميسورة الحال، بما يعني أن تحركهم كان بالأساس من أجل معاناة مواطينهم ووطنهم الحياتية، بالإضافة إلى ما يصبون إليه من حرية واحترام لإنسانية الإنسان. . أما بقية المكونات التي شكلت حشود الثورة، فقد تنوعت وفق ميولها وانتماءاتها، إلى حد مشاركة تلك التيارات الدينية، التي اعتبرناها جزءاً أصيلاً من القديم، المفترض الثورة عليه وإسقاطه، مع سقوط النظام الذي تربى في أحضانه، واستخدمه كفزاعة يوطد بها نفوذه ووجوده.
في الجزء الثاني تناولنا البيئة المصرية التقليدية وأحوالها الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، ورأينا أنها غير مؤهلة لاحتضان ثورة حقيقية، تنقل البلاد من حال إلى حال مختلف. . وكان الجزء الثالث خاص بمقاربة توافر إرادة التغيير بالمجتمع، ومدى الاستعداد لدفع ثمنه، ولم يكن ما استعرضناه أكثر إيجابية في الدفع باتجاه اكتمال الحراك ليكون ثورة حقيقية، لنأتي الآن إلى البحث إن كان الشعب المصري أو صفوته الناشطة والثائرة لديها رؤية لشكل المستقبل الذي تريده، والخطوط العريضة لخارطة طريق تصل بها إلى أهدافها، أم أن أقصى ما نجمع عليه هو رفض الماضي، لنقف بعد ذلك حيارى أمام المستقبل، بل تختلف رؤى بعض التيارات مع الأغلبية إلى حد التضاد، ونقصد بالتحديد التيارات الدينية، المصممة على مرجعية ماضوية، ترى أنها مطلوبة إرضاء للإله، ما يضمن الثواب في الآخرة بجنات الخلد، ولا نجد لديها بعد هذا أي إجابات للأسئلة التي تفرضها علينا هذه الحياة الدنيا!!
لعل أوضح ما نستطيع رصده، أننا متفقون على ما نرفض، وهو ذلك النظام الشمولي الذي هيمن على البلاد لستة عقود، وإن كان فريق منا يستثني الفترة الناصرية، معتبراً إياها فترة أمجاد العروبة والريادة الثورية!!. . لكننا نكاد لا نعرف ماذا نريد، فمجموعات النخبة ومن ينصت إليها من الجماهير، يقعون جميعاً بين أكثر من تناقض أو مفارقة، المفارقة الأولى بين الماضي والحاضر فهؤلاء العقائديين الدينيين أو الأيديولوجيين، الواقعين أسرى أضغاث الماضي وهواجسه، سواء كان الماضي الناصري العروبجي، أو الماضي الذهبي وفق تصوارتهم، ذلك الذي كان منذ عشرات القرون، هؤلاء أيضاً ممزقين، بين أهدافهم أو رؤاهم الدوجماطيقية، وبين ما يفرضه عليهم الواقع ومتطلباته، ولا يتسق بالطبع مع رؤاهم المفارقة، فيقعون فريسة لتناقض داخلي بين نقيضين، لا يستطيعون الفرار من أيهما، ولا تعدو محاولات التوفيق بينهما أن تكون خداعاً للذات قبل أن تكون خداعاً للآخرين!!
التناقض الثاني هو تناقض الانغلاق والانفتاح، فمن سموا أنفسهم دعاة الدولة المدنية، ذلك الاصطلاح الذي انفردت به مصر عن العالم بعلومه السياسية، هؤلاء أيضاً لا تجمعهم رؤية موحدة للمستقبل، تتنازعهم هلاوس الانغلاق والعداء العروبية للعالم، بميراثه العدائي للسامية، والمتوطن في العالمين العربي والإسلامي، في مقابل الليبراليين المتطلعين للانفتاح على العالم، بل والالتحاق بالعالم الغربي الحر والمتقدم، وتوديع عالم الشرق الاستبدادي وتخلفه، ومفارقة جموده الثقافي والاجتماعي، علاوة بالطبع على تخلفه السياسي والاقتصادي.
حتى المفاهيم المطلقة التي نادى بها شباب الثورة، لم يسلم محمولها أو محتواها من التناقض بين الفرقاء. . لنأخذ مفهوماً يبدو بسيطاً وعالمياً مثل مفهومquot;الحريةquot;، هذا يفهمه البعض الليبرالي وفق مايدل عليه عالمياً من تحرر للإنسان ولملكاته الإبداعية، ونجد البعض من اليساريين يعتبرون الحرية هي سيادة الطبقة العاملة، أو من يلقبونهم بالمطحونين، في مقابل الهيمنة أو حتى اجتثاث أعداء الشعب البرجوازيين والرأسماليين.. وأخيراً وليس الآخر نجد التيار الديني، والذي يفهم الحرية على أنها حرية اتخاذ قرار التسليم لحاكمية الله، وبمقتضاه يصير رجال الدين أسياداً لعبيد الله المؤمنين، والذين سيحتفظون بلقب مؤمنين طالما أطاعوا نواب الله على الأرض، دون نقاش أو جدال.
مفهومquot;العدالةquot; أيضاً يتفق عليه الجميع، ثم يختلفون في فهمه اختلافاً بيناً. . يفهمه البعض على أنه يعني عدالة توزيع ما يتصورونه خيرات الوطن، كما لو كانت هذه الخيرات المزعومة منحة مجانية تنزل من السماء، كالمن والسلوى التي أعال بها الله الشعب الإسرائيلي أثناء تيهه في سيناء، ويترتب على هذا التصور ما نسمعه من صراخ مطالب quot;بتقريب الفوارق بين الطبقاتquot;، ويترجم لمطلب تنفيذي بوضع حد أدنى وحد أقصى للأجور، في تجاهل لحقيقة الاقتصاد المصري والعالمي حالياً، والذي لا تقوم فيه الدولة بدور الموزع الوحيد لخيرات سمائية أو أو ثروة ريعية، والأخيرة ضئيلة بمصر، بحيث يكون الاقتتال على عدالة توزيعها بمثابة لعدالة توزيع الفقر، أو عدالة إفقار الجميع. . في مقابل هؤلاء بالطبع هناك من يفهم العدالة على أنها عدالة تكافؤ فرص الكد والعمل وإثبات الذات، وهو المفهوم الذي لا نتوقع أن يروق لعديمي المواهب وغير المؤهلين أو المدربين، والذين تبرمجوا على مفهوم quot;الرزقquot; الهابط للناس كمنحة سمائية.
لا تتسع هذه المقاربة لتناول جميع جوانب وملامح فقدان الرؤية، والشقاق والتباين بين كافة تيارات وقوى الساحة المصرية حول المستقبل، بل وحول اليوم ماذا نفعل، وفي أي طريق نتجه، لكننا ربما نجحنا في لفت الانتباه لتلك الأزمة أو الورطة المصرية، والتي تحتاج لكثير من البحث والدرس. . بداية بتحديد معالمها وجوانبها، لننتقل بعدها للبحث عن حلول عملية.
ملحوظة عابرة ربما نعود إليها تفصيلياً فيما بعد، وهي التحذير من اعتبار أن الثورة تقتضي السير بعكس كل التوجهات التي سار عليها مبارك، ونحن نرى عشرات الدلائل على وجود ذلك المنحى الانتحاري المدمر، بداية من إطلاق سراح الإرهابيين، وفتح أبواب البلاد للمطاردين منهم في العالم، وإصدار قرارات عفو عنهم، مروراً بمغازلة إيران وحماس، بالإضافة لتصاعد نغمة العداء للسامية، ثم ما نشهده من تدمير للاقتصاد المصري وتطفيش المستثمرين. . ربما وراء كل هذا افتقاد الرؤية الذي تناولناه هنا، وتغلغل مثل تلك التوجهات العكسية في عقلية وخطاب مختلف جماعات المعارضة الحنجورية، تلك التي قلنا مراراً أنها كانت ومازالت أسوأ من نظام مبارك وكل من حكمونا قبله منذ انتكاسة 23 يوليو 1952.
قد تبدو الصورة التي استعرضناها في سلسلة المقالات هذه سوداوية ومتشائمة، لكن هذا هو الأبعد عن تفكير ورؤية كاتب هذه السطور، فنحن هنا قد استعرضنا ملامح الحاضر، وما قد يترتب على استمرار تلك الملامح، من تعثر أو انسداد لطرق المستقبل الذي نطمح إليه جميعاً. . لكن إذا استطاع شبابنا الثائر استدامة حالة الثورة، والتغلب على تلك القوى التي توظف مفهوم quot;الاستقرارquot; لتداعب به الجماهير، وتقضي على الثورة أو تجهضها، فإن استمرار الحراك الشعبي كفيل بخلق واستيلاد حقائق جديدة، علاوة على قدرة الجماهير من خلال حراكها الثقافي والاجتماعي على التخلص من الكثير مما استعرضنا من مفارقات، لتتوجه بأكثر استقامة وجرأة نحو مصالحها.
مصر-الإسكندرية
التعليقات