رغم أن عنوان هذه السطور وموضوعها قد يبدوان ذاتيين، إذ أنتوي عرض مواقفي وهمومي وهواجسي إزاء أخطر مراحل تاريخ منطقة الشرق الأوسط في العصر الحديث، أي إزاء الشطر الأول من العنوان وهو ما اصطلح على تسميته quot;الربيع العربيquot;، إلا أن الشطر الثاني وهو quot;أناquot; إذا ما وضحنا وحددنا من هو هذا quot;الأناquot;، سنجد أنه لسان حال الكثيرين، وإن لم يكن بالقطع لسان حال الجميع في هذه البقعة من العالم، ولهذا بالتحديد لزم التوضيح الذي سنشرع فيه سريعاً قبل أن يمل القارئ، لكي نفصل بين موقف quot;أنايquot; ومن يشاركني كل أو بعض سماتها، وبين موقف quot;أنواتquot; أخرى عديدة تزخر بها الساحة أو الشارع العربي.
تقبع quot;أنايquot; في القلب من عدة دوائر، أولها quot;دائرة الانتماء الإنسانيquot;، التي تجمعني بأكثر من 6 مليار نسمة يتوزعون على مساحة اليابسة في الكرة الأرضية، وهو الانتماء الأساسي الذي لا تواجد لي خارجه، والذي تجبُّ متطلباته وشروطه أي عوامل أخرى قد تتناقض معه. . بداخل هذه الدائرة أخرى هي quot;دائرة الانتماء للعلمانية والحداثةquot;، والتي تضمني بما هو أقوى من الأخوة مع كل ساع لتطور الإنسان والإنسانية، ولتحرير البشر من أسر الفقر والجهل والخرافة والاستبداد. . في داخل هذه الدائرة أستشعر الثقة في قدرة الإنسان على التقدم للأمام من منظور الحضارة، عبر التغلب على ما يعترض المسيرة في العديد من مراحلها من توقفات وانكسارات وتراجعات مرحلية، لايلبث الإنسان أن يتغلب عليها، ليستمكل مسيرة بدأت من مرافقة القردة العليا على الأشجار، حتى دبت قدماه على صخور القمر.
في الداخل مما سبق تقع quot;دائرة انتمائي الشرق أوسطيquot;، وهو ما نطلق عليه تجاوزاً ومن قبيل الاختصار المخل بالمعنى الصحيح quot;الانتماء العربيquot;، حيث يضمني بالقوم الجوار الجغرافي والهم والمعاناة المشتركة في أغلب معالمها، وأهمها التخلف الحضاري والثقافي والاستعباد الناتج عن الاستبداد العسكري والديني، ويتلو هذه الدائرة من داخلها quot;دائرة الانتماء المصريquot; والذي يتميز عن باقي ما يستغرق فيه من دوائر بعمق وشمول الارتباط بين سائر المنتمين تحت ظل المواطنة، وفي القلب من تلك الدائرة توجد دائري انتمائي لتلك الجماعة المصرية القديمة قدم التاريخ المصري، والملقبة في هذه المرحلة quot;الأقباطquot;، وهو انتماء لجماعة أكثر منه لدينها وهو المسيحية، باعتبار الدين أمر شخصي يخص الإنسان الفرد، وهو علاقة بين الإنسان وربه، ولا ينبغي أن يترتب عليها تحديد أية علاقات خاصة بين الإنسان وسائر من يتعامل معهم من بشر، خاصة تلك التي تتجاوز حدود الالتزام بالمثل العليا المفترض على سائر المؤمنين بإله سام متعال الالتزام بها.
لو انتقلنا إلى ما يسمى quot;الربيع العربيquot;، سنجد أن شعارات بداياته في مختلف بلدان المنطقة تختلف عما نرصده من نتائجه المبدئية وتداعياته، فهو يبدأ دائماً برفع شعارات الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية، وما يفهم ضمناً أنه رغبة في الانتقال من تخلف العصور الماضية، إلى رحاب الحداثة والتنمية، ومن الانغلاق أو الانكفاء على الذات إلى الانفتاح على العالم وحضارته وقيمه، سعياً للالتحاق الإيجابي بمسيرة تأخرنا طويلاً عن الالتحاق بها.
لكن ما ظهرت تباشيره في تونس وليبيا، وما يتوقعه كثيرون لمصر، بالإضافة إلى ما نتخوف منه أيضاً في سوريا، هو حدوث ردة عما تحقق لشعوب المنطقة حتى الآن من منجزات حضارية وحداثية، فعندما يستهل رئيس المجلس الانتقالي الليبي خطاب التحرير ببشرى تعدد الزوجات للرجال الليبيين الذي دفعوا ضريبة الدم باهظة من أجل التخلص من استبداد العقيد المجنون، لابد وأن ينتابنا الذهول من رخص الثمن وربما تفاهته، مقارنة بالتضحيات الهائلة للشعب الليبي، ووقوف العالم إلى جانبهم، ليس بالطبع من أجل تمتعهم بتعدد الزوجات، وإنما من أجل تمكينهم من الالتحاق بعالم quot;الحرية والحداثة والكرامة الإنسانيةquot;!!
الأقليات في العالم العربي وفي مقدمتها مسيحيو الشرق ومنهم كاتب هذه السطور، ساروا مع الثوار المتظاهرين يهتفون quot;للحرية والعدالة والكرامة الإنسانيةquot;، ثم يجدون أنفسهم الآن مهددين بدفع الجزية، ليفقدوا مكتسباتهم خلال قرون عديدة، وكأنهم سعوا لتسلق جبل الحرية، فوقعوا لتنكسر رقابهم في هاوية عبودية سمعوا فقط عن حكاياتها المريرة في كتب التاريخ.
التباين إذن شديد بين المقدمات والنتائج المتحققة أو المتوقعة، وكذا التباين في مواقف الأفراد المترتبة على اختلاف انتماءاتهم، ولهذا بالتحديد استعرضنا مختلف انتماءات، على أساس التأكيد على تعدد انتماءات الشخص الواحد، ذلك التعدد غير المتنافر ولا المتعارض، حيث تصورنا الأمر على هيئة دوائر تستغرق في بعضها البعض، تبدأ من دائرة الانتماء الإنسانية الشاملة، وتنتهي بالانتماء إلى جماعة صغيرة دينية أو عرقية، بحيث لا يكون اعتزاز وتمسك الفرد بالانتماء إلى أي دائرة منها يعني الخروج من سائر الانتماءات الأخرى.
ما يحدث ونرصده الآن من تباين شديد للجمهور تقييماً لحركة quot;الربيع العربيquot; ونتائجه ناتج عن حصر الإنسان لتفكيره وتحديد موقفه بناء على انتماء لدائرة واحدة من تلك الدوائر المتعددة، وتجاهله لحقيقة انتمائه لأكثر من دائرة أخرى.
لنبدأ بمسيحيي الشرق، ولنأخذ مثال مصر وسوريا. . قد نجد منهم من يفضل حكم البعث الأسدي الذي يحميهم من عسف الظلاميين بهم، كما نجد بين الأقباط من يترحم على حكم مبارك رغم ما حدث لهم في عهده، تخوفاً مما هو أسوأ ويتم تهديدهم به علانية ومن قبل من يطمحون لرئاسة الجمهورية، بل ويجدون شخصاً مثل د. محمد سليم العوا، من كان معنياً بتحريض الدولة والمسلمين على مواطنيه الأقباط، يطمح الآن في أن يصل إلى رئاسة الجمهورية، ولنا أن نتخيل معهم ما سوف يحدث للأقباط إذا ما نجح هذا، أو ذاك الذي أخبرهم بمبلغ الجزية مقدماً، والذي طمأن المصريين بأن تنظيم القاعدة لن يقوم بتفجيرات في مصر، مادام سيقوم فضيلته في حالة توليه رئاسة الجمهورية بتطبيق كل ما ينادي به تنظيم القاعدة!!
لو ركزت أنا بصفتي واحد من الأقباط على انتمائي لدائرة الانتماء الديني فقط، فبالتأكيد سوف ألعن quot;الثورةquot; وquot;الشتاء (وليس الربيع) العربيquot;. . وكذا الأمر في سورية، فقد أرى أن quot;نار مبارك أو الأسد ولا جنة أيمن الظواهريquot;!!. . لكنني إذا انتبهت إلى سائر دوائر انتمائي، الدائرة الوطنية والشرق أوسطية ودائرتي الحداثة والإنسانية، فلن أقبل أن أظل إلى الأبد تحت نير تلك الأنظمة المستبدة التي تسبب العقم والتخلف في المنطقة، بل وهي المسؤولة عن نمو واستفحال تلك النزعات الإجرامية الوحشية المستترة بالدين. . لن أقبل أن أظل أسير ماض وحاضر بلا حرية ولا كرامة ولا تقدم لأنني أخشى مواجهة ما لابد وأن نواجهه يوماً ما، بل وبالتأكيد ستكون مواجهته اليوم أفضل من الغد، لأنه لابد وأن يكون عندها أكثر توحشاً!!
نفس هذا يقال عن الذين يركزون على الانتماء الوطني أو الحداثي، والذي قد يرون حركة quot;الربيع العربيquot; بمثابة تقهقر أو تراجع عدة خطوات للخلف من منظور الحداثة، فقد نفقد نظمنا شبه العلمانية، لنقع فريسة نظم تعود إلى أربعة عشر قرناً خلت. . هؤلاء لو انتبهوا إلى quot;دائرة انتمائهم الإنسانيquot; لابد وأن يلحظوا أن مسيرة الإنسانية كانت تتطور دوماً عبر التفاعل والصراع، وأن الحضارة كانت بوجه عام هي المنتصر النهائي، وأن أخطر ما أحدثته نظمنا الشرق أوسطية المستبدة كان تجميد الصراعات المجتمعية، وهي الحالة التي استغلتها التيارات الظلامية لتنمو وتتوغل تحت السطح، فيما ماتت أو اختنقت وضمرت قوى وتيارات الحداثة، وأن الحل الذي لا حل غيره هو رفع الغطاء الثقيل من فوق الجميع، ليجري الصراع في الهواء الطلق. . نعم قد نمر بفترات صعبة وأحداث مأساوية، وقد تشكل هذه ثمناً باهظاً لا نحب أن ندفعه، لكن إذا ما قارنا الثمن الذي نتهيبه بقيمة الحرية وروعة التحضر والحداثة، سيكون من الجبن والخسة عندها أن نختار التخلف والقهر، لأننا نبخل بدفع ثمن quot;الحرية والعدالة والكرامة الإنسانيةquot;!!
مصر- الإسكندرية
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات