بادئ ذي بدء:
على المجلس العسكري سرعة تدارك جريمة السماح بترخيص أحزاب دينية بالمخالفة للدستور والقانون، اللذين يعبران عن إرادة الأمة التي دس لها السم في العسل، فابتلعت الجماهير الطعم وتجرعت سمومه، وإلا عليه تغيير الدستور والقانون، لنعرف ويعرف العالم كله ماذا يريد لمصر بالتحديد، فقد ظل الظلاميون هم السلاح الذي يهددنا به مبارك، حتى جاء المجلس العسكري ليغرسة بالفعل في أحشاء مصر!!
لو استمر الحال على ذات المنوال من حيث النتائج في المرحلتين الثانية والثالثة من الانتخابات النيابية المصرية، سيكون خيار الشعب المصري عندها واضحاً لا لبس فيه، بأنه قد أعطى تفويضاً مطلقاً للتيارات الدينية لتمثله في البرلمان، وحقق السلفيون الأكثر تشدداً وتطرفاً نجاحاً مذهلاً، واختارت الجماهير بمنتهى الديموقراطية من يعتبر الديموقراطية كفراً، ويعد كل آخر عدواً يحل هدر دمه. . لم يأت التفويض المصري جزئياً كما حدث مع الإسلاميين في تونس بنسبة 41%، أو كما حدث في المغرب بنسبة 27%، بحيث يكون هناك مقابل مدني يستند لقاعدة شعبية حقيقية، وإنما يتوقع أن تصل مجمل الأحزاب الدينية إلى ما يتجاوز ثلثي أصوات الجماهير، هذا دون حساب من سينضمون إلى هؤلاء من المستقلين، وفقاً للتقليد المصري العريق في مسارعة المستقلين للالتحاق بالحزب الحاكم، لينالهم نصيب من كعكة المغانم!!
هو سقوط مصر الكامل إذن ما ترتب على وضع الشعب المصري ثقته الكاملة فيمن رفعوا صور أسامة بن لادن في ميدان التحرير في الأيام التي أطلقنا عليها quot;جمعة قندهارquot;، ومن هدموا كنائس مواطنيهم الأقباط وأحرقوا منازلهم ومتاجرهم، وسحبوا منهم تصنيف quot;أهل الكتابquot;، والذي بموجبه تعايش المسلمون والمسيحيون معاً بأكبر قدر ممكن من التوافق والسلام لقرون عديدة، ليحل محله تصنيف quot;كفارquot;، ولا يحتاج أحد لتوضيح التغير الجذري المترتب على ذلك الانقلاب في التصنيف، حيث السيف والعداء والكراهية المطلقة هي ما يحتل كل المسافة بين quot;المؤمنquot; وquot;الكافرquot;، وهو ما لا ينسحب فقط على الأقباط الذين صاروا والحال هكذا كما لو أسرى حرب لدى المؤمنين المجاهدين، وإنما ينطبق أيضاً على موقف مصر كلها -التي ملكوا زمامها بتفويض ديموقراطي- من كافة شعوب العالم quot;الكافرةquot;.
نرصد أيضاً أن الجماعة الحريصة على إيهامنا باعتدالها وهي جماعة الإخوان المسلمين، لم تقم خلال الفترة الماضية من عمر ما يسمى quot;ثورة مصريةquot; بتبني مراجعات فقهية مختلفة جذرياً عن ذلك الخطاب المتشدد الذي جاهر به القادمون الجدد للساحة السياسية المصرية، بل رغم محاولاتهم التخدير والتهدئة من قبيل التقية، صدرت عن قياداتهم ورموزهم تصريحات تكشف بجلاء -لمن لا يعرف حقيقتهم- مدى التطابق النابع من الجذر الواحد بين خطاب الإخوان المسلمين وبين سائر التشكيلات والتسميات الأكثر صراحة ووضوحاً في إعلان أفكارها، المنتمية لمرجعية واحده، هي تنظيرات quot;أيمن الظواهريquot; وquot;عبد السلام فرجquot; وquot;سيد قطبquot; وسائر منظري quot;فريضة الجهادquot; وquot;الولاء والبراءquot;. . لا ينتقص من هذه الحقيقة ما يسارعون على سبيل التقية لنشره من توضيحات وتراجعات عما ينفلت سهواً أو بعمد من هذا المتحدث الإخواني أو ذاك، يصل بعضها إلى خواء المبرر حد اللجوء لنسبة ما قيل إلى quot;المزاحquot;!!
أمام هذه الحالة التي ليس من قبيل التشاؤم أو المبالغة وصفها بالكارثية، قد يجد البعض نفسه كمن وصل إلى نهاية طريق مسدود، ولا يستطيع أو لا يمتلك رفاهية الاعتراف بالوصول إلى هذه النهاية المرعبة، فيبدأ في تخيل منافذ وهمية، يبحث لها عن مبررات تعطيها جسداً من المنطقية والواقعية، متجاهلاً الحيثيات الواقعية الحقيقية، والتي تقود لعكس ما يتوهمه من منافذ، وهنا يكون من يقع أسير أوهامه تلك أشبه بالغريق الذي يتوهم عثوره على طوافة، فيما الطوفان يجرفه متسارعاً نحو قاع المحيط!!
نتحدث الآن عن رهان التزام الاعتدال من قبل من تملكوا زمام الأمور بمصر بموجب إرادة شعبية كاسحة، وليس بناء على انقلاب نخبوي أو عسكري، يجعلهم يجنحون quot;لمسك العصا من منتصفهاquot;، تخوفاً من أن تنقلب عليهم الجماهير، في حين أنه يمكن القول أن العكس هو الصحيح، فأمانة الظلاميين تجاه جماهيرهم هي في التزامهم بما تم انتخابهم على أساسه، وهو مقولاتهم وشعاراتهم التي لم يوفروا جهداً في إعلانها بصراحة ووضوح، بحيث كنا أهل الليبرالية نتصور أن في وضوحهم هذا ميزة افتضاحهم أمام الجماهير، واتخذ البعض منها مادة للتندر عليهم، فإذا بالشعب المصري يقبل عليهم إقبالاً منقطع النظير!!
يستند المراهنون على اضطرار الظلاميين إلى الاعتدال إلى المثل القائل quot;إللي إيده في المية مش زي إللي إيده في النارquot;، بمعنى أن الموجود في صفوف المعارضة يسهل عليه اتخاذ أشد المواقف تطرفاً مادامت المسألة لا تعدو أن تكون تجارة بالكلمات، لكنهم متى وصلوا لموقع المسئولية عن شعب، فلابد أن تجبرهم تلك المسئولية على التزام جادة الصواب، حرصاً على عائلات وأطفال ونساء ورجال!!. . هذا بالضبط ما توقعناه حين وصلت حماس بذات الديموقراطية الشرقية إلى الحكم، وما توقعناه قبلها لإيران بعد خمود فورة حماسة الثورة الخمينية. . لا ينبغي أبداً أن يغيب عن عيوننا هذين المثالين، فرغم شدة الضغوط الدولية على إيران وغزة الحمساوية، إلا أنهما يستطيعان حتى الآن بما في أيديهما من عناصر الصمود المضي في تحدي العالم، حتى ولو حساب إحالة حياة الشعوب إلى جحيم!!
السودان أيضاً يستمر حتى الآن صامداً رغم كل ما يمارس عليه من ضغوط، ورغم وصوله إلى درجة تقسيم البلاد، وهو ما وافق عليه الطاغية المتمترس بما يعتبره شريعة إسلامية راضياً، في سبيل الانفراد بحكم شمال يطبق عليه ما شاء تطبيقه من تشريعات، وهذا ليس غريباً أو مذهلاً في الحقيقة، فهؤلاء المتاجرين بالدين لا يعنيهم سوى الهيمنة والقبضة الحديدية على رقاب العباد، وليذهب كل ماعدا ذلك إلى الجحيم!!
لو انتقلنا لمثال إسلاميي تركيا، وما يتوقع مثيله في تونس والمغرب، حيث يظهر الجنوح إلى الاعتدال إلى حد عمل حزب العدالة والتنمية التركي تحت مظلة الاعتراف بعلمانية الدولة، نجد أن موقف الإسلاميين الأتراك لا ينبع حقيقة من ثقافة مستنيرة وميلاً طبيعياً للانفتاح والتوافق مع العالم ومع العصر، بقدر ما يرجع إلى القبضة القوية للجيش العلماني التركي، الذي صادر حزب الرفاه الذي أسسه نجم الدين أربكان ووضعه شخصياً في السجن، وجعل الإسلاميين أمام خيار وحيد هو التزام الاعتدال، بل ويستطيع المراقب الآن رصد محاولتهم التملص من القبضة العسكرية الحارسة للعلمانية، ما لو تحقق سنجدهم يتمددون عائدين إلى العمود الفقري لفكرهم المعادي لقيم الحضارة والعصر.
اعتدال الظلاميين إذن رهن بالضغوط التي تمارس عليهم، سواء كانت خارجية أم داخلية، مقارنة بعناصر قوتهم المعينة على الصمود، وعناصر الصمود في حالتي إيران وغزة هي الجماهير المؤيدة والقدرة المادية، التي هي في حالة إيران عائد البترول، وفي حالة غزة التمويل الإيراني والخليجي، ومعونات منظمات الغوث الدولية التي تخفف من معاناة الجماهير، أما في الحالة المصرية فلا موارد ريعية كالبترول يمكن الاعتماد عليها وتكفي شعباً بحجم الشعب المصري، إذا ما سلك الطريق المعادي للعالم، وتحولت مصر لما هي مؤهلة له بالفعل الآن، فتصير ملاذاً آمناً لتنظيم القاعدة، كما أن حجم التمويل من مراكز البترودولار سيكون كافياً بالكاد لدوام ولاء وفاعلية العناصر الظلامية الناشطة، ولن يكون من الممكن تعاظمه ليغطي الاحتياجات ولو الأساسية لشعب تعداده 85 مليوناً.
الحالة المصرية معقدة وتحتاج للمزيد من البحث والتحليل، لكن ما وددنا مؤقتاً التنويه عنه في هذه العجالة هو استبعادنا quot;التعقل الذاتيquot; لقادة الظلاميين حرصاً على صالح مواطنيهم واتباعاً للمنهج البرجماتي، فلم يسبق لنا أن رأينا مثل هذا التعقل في أي مكان آخر من تجارب السقوط السابقة للشعوب، ومن غير المتوقع أن نشهده في مصر بالذات، حيث تردي الثقافة والانعزال عن العصر يبلغ درجة متفاقمة.
مصر ndash; الإسكندرية
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات