نحتاج بداية للتنويه بأننا حين نتحدث عما ندعوه quot;أخونة الدولةquot; عبر سياق سلبي فإننا لا نعني إدانة سيطرة quot;حزب الحرية والعدالةquot; الذراع السياسي للإخوان المسلمين على المناصب السياسية لنظام الحكم المصري، فهذا حقهم أو واجبهم وفقاً لنتائج الانتخابات البرلمانية (الملغاة) ونتيجة انتخابات الرئاسة، لكن النظام السياسي شيء والدولة المصرية بمؤسساتها المتخصصة شيء آخر، ففيما الأولى متغيرة بتغير تصويت الشعب في الانتخابات، فإن الأخيرة دائمة وراسخة تؤدي دورها الاحترافي التخصصي خدمة للشعب وتحقيقاً لمصالحه، وما يحدث الآن بتسارع في جميعها من دخول الميول السياسية عبر تعيين الكوادر الإخوانية في المناصب القيادية بالوزارات المختلفة بغض النظر عن الأقدمية والجدارة المهنية هو بمثابة زرع عبوات الديناميت في أركانها لتفجيرها، ويزداد الأمر خطورة بما لا يقاس إذا ما كنا نتحدث عن السلطة القضائية، المستقلة عن كل من النظام السياسي وأجهزة الدولة التنفيذية وأي مؤسسات فنية متخصصة.
حاولت جماعة الإخوان المسلمين بعد أحكام البراءة في قضية quot;موقعة الجملquot; استغلال الأمر استغلالاً أقرب لما نعرفه quot;بقميص عثمانquot;، لتمد يدها بالسيطرة والإفساد لاحترام القضاء واستقلاليته باسم القصاص من قتلة الشهداء، ليبدو جلياً أن الحاضر أيضاً وليس فقط التاريخ يتم تزويره، وإلا هل نعرف يقيناً حقيقة ما سمي بموقعة الجمل، هل نعرف حقيقة إن كان راكبو الجمال الذين دخلوا ميدان التحرير يوم 2 فبراير 2011 قد قتلوا أو أصابوا أحداً بالفعل، أم أنهم دخلوا لمجرد تشتيت الحشود بتخويفهم، وأن عمليات القتل للمتظاهرين تمت في وقت لاحق، وقام بها فاعل لا نستطيع حتى الآن إلا أن نصفه بالمجهول، رغم أن ملامح صورته تزداد وضوحاً يوماً فيوماً؟. . ربما نجد إجابات لهذه الأسئلة إذا ما أوضح لنا د. أسامة يس وزير الشباب الإخواني طبيعة quot;الفرقة 95quot; الإخوانجية التي ذكرها في حديثه بقناة الجزيرة أخيراً، وكم قتلت هذه الفرقة ممن أسماهم البلطجية، وكم حملت سيارات الإسعاف الأربعة التي أشار إليها من الفلول الذين كانوا يحملون بوستر مبارك ورد عليهم شباب الإخوان بقذائف المولوتوف وفق روايته!!
أحكام البراءة في موقعة الجمل انهيار لجدران الأكاذيب التي تم ترويجها بعد انقلاب 25 يناير 2011، وستكون مهمة المؤرخين لهذه الفترة من تاريخ مصر عسيرة، فلقد ترسخت في الأذهان ووسائل الإعلام كميات غير مسبوقة من الأكاذيب والتلفيقات التي تأخذ شكل الحقائق والثورية والإخلاص للوطن ومقاومة الفساد والاستبداد. . هنا ستضيع الحقائق وتختلط الرؤى وتعجز البوصلة عن تحديد الاتجاهات.
قبل البحث عن قتلة شهداء الثورة ومحاكمتهم كان ينبغي إعادة استعراض قائمة هؤلاء الشهداء، لنفصل بين من كان منهم يتظاهر سلمياً رافعاً شعارات الحرية والكرامة الإنسانية، ومن كان يقوم بمهاجمة أقسام البوليس والسجون لإطلاق سراح القتلة والإرهابيين المصريين والعرب، ومن هاجم مقار أمن الدولة لإعدام ملفات عملائها الذين صاروا الآن حكاماً ونواباً ونجوماً بالقنوات الفضائية. . نحتاج بداية لمعرفة من اغتال اللواء/ محمد عباس حمزة البطران رئيس قطاع السجون فجر يوم 29 يناير 2011، وهو يحاول الدفاع عن سجن القناطر في مواجهة الإرهابيين الذين هاجموا السجن لإطلاق سراح نزلائه، وكثيرون غيره ممن دفعوا حياتهم ثمناً لمحاولة صد هجمة الغوغاء والظلاميين على مؤسسات الدولة المصرية، كما لابد وأن نعرف من أتى بعملاء حماس وحزب الله ليهاجموا السجون المصرية ويخرجوا إرهابييهم لنسمع أصواتهم في ذات الليلة في غزة وبيروت. . نحتاج لإزالة تلال بل جبال من الأكاذيب التي روجها من ارتدوا ثياب الثوار، وهم في الحقيقة طيور الظلام التي تحاول الآن أن تحجب عن وادي النيل نور الشمس.
لابد ونحن نرقب عجلة الأخونة وهي تحاول حثيثاً الإطاحة بدعائم الدولة المصرية أن نسند الفضل في ذلك لأصحابه الأصليين، فنحن لا نبالغ إن قلنا أنه على المدى القصير على الأقل لن يستطيع الإخوان إلحاق أضرار بمصر بحجم تلك التي تسبب فيها المجلس العسكري خلال فترة سيطرته، فقد كانت قراراته بحق بداية الخراب لمصر المحروسة، لقد سلم مبارك الدولة المصرية للمجلس العسكري لحمايتها مضحياً بنفسه وبنظام حكمه، فإذا بهم يسلمونها لمن لا يعترفون بدولة ولا وطن، ويشرعون في إطلاق سراح الإرهابيين القتلة منذ الأيام الأولى، لنصل الآن لتهديدات علنية من الإرهابيين المسيطرين على سيناء للجيش المصري الذي سبق وحررها من الاحتلال الإسرائيلي. . الخيانة العظمى هي أقل ما يمكن اتهام به هؤلاء يوم تتبدد الظلمة وتنقشع الغيوم السوداء عن سماء مصر.
في أحدث حلقات ضرب الدولة المصرية في الصميم كانت محاولة عزل النائب العام من قبل من لا يملك هذا الحق، ونشهد سلسلة من المراوغات والأكاذيب تحاول التستر على تلك الجريمة الفضيحة الفاضحة لما يضمره الإخوان للدولة المصرية العتيدة، وربما فاجأهم موقف قضاة مصر، وقد تصوروهم فريسة وصيداً سهل المنال كما كان المجلس العسكري، لكن الرياح لم تأت بما يشتهي قراصنة السفينة المصرية.
لعل أخطر ما نرصده في مسرحية محاولة خلع النائب العام المحصن دستورياً وقانونياً من العزل هو استخدام أهل السلطة للتهديدات بالبلطجة لإخافة الرجل وإجباره على التخللي عن منصبه، فماذا يستطيع رجل هو في النهاية إنسان أن يفعل عندما يجد رؤوس الدولة تهمس له تليفونياً quot;بحنو بالغquot; بأنها تخشى عليه مصير المستشار/ عبد الرازق السنهوري الذي دخل عليه رجال quot;ثوار يوليو الأحرارquot; مكتبه وسحلوه، وهل يستطيع المستشار/ عبد المجيد محمود وهو يستمع لهذه التهديدات الصريحة quot;بالغة الحنو والعطفquot; إلا أن يتردد ويحتار بماذا يجيب على هذه القمم القضائية (سابقاً)، وأن نحتار نحن جميعاً معه في طبيعة الأدوات التي يستخدمها أعوان رئيس جمهوريتنا وطاقمه لتنفيذ quot;نهضتهم الإخوانيةquot;، وإن كانت هي سلطة القانون وأجهزة الدولة الرسمية، أم التلويح بفرق الإرهابيين الملثمين الذين رأينا استعراضاً لقدراتهم القتالية يوم 10 ديسمبر 2006 في ساحة جامعة الأزهر؟!!
تم استقبال النائب العام بالزغاريد عند وصوله مكتبه، وكان المستشار أحمد الزند، رئيس نادى القضاة قد دعا لانعقاد جمعية عمومية طارئة لدعم النائب العام، مطالباً المستشار عبد المجيد محمود بالذهاب إلى مكتبه، حيث سيقف إلى جواره جميع قضاة مصر، هذه فيما نرى النهاية السعيدة للجولة الأولى من الغزوة التي يقوم بها الإخوان المسلمون على القضاء المصري، ولن تكون عودة النائب العام لمكتبه ومنصبه مستوجبة لرفع رايات النصر، فسوف يظل تربص المتربصين بالقضاء مستمراً، وسوف يخترقون صفوف القضاء بالمزيد من فيروساتهم الفتاكة، ما لم يثبت القضاة أنهم جديرون بمناصبهم الجليلة، وأنهم ليسوا كأوراق الخريف التي تذروها النسائم، فهل يفعلها قضاة مصر ليثبتوا أن بمصر رجالاً؟
رؤيتي الشخصية أن استقلال القضاء المصري وطوال الستين عاماً الماضية أمنية وحلماً، وليس حقيقة واقعة تحتاج لمن يدافع عنها، ومع ذلك قد تكون عودة النائب العام لمكتبه بداية انتصار الشرعية والدولة المصرية على من يرفعون معاول هدمها وهم يهتفون باسم الله، وأرجو أن تثبت الأيام أن مصر ليست quot;لقمة طريةquot; يسهل على الظلاميين والمتربصين مضغها وهضمها.
ذهاب هذا النائب العام شخصياً ليس هو القضية بالطبع، فالكارثة في العصف بسيادة السلطة القضائية، إن كان لهذه السيادة من وجود حقيقي منذ انقلاب يوليو 1952، وفيمن سيأتي به محمد مرسي لهذا المنصب، وما إذا كانوا يريدون تحويل القضاء المصري إلى قضاء إخواني يأتمر هو أيضاً بما يصدر عن مكتب الإرشاد. . لو كان قضاتنا قد خنعوا لما أريد لهم لما قبلت أن يحدثني أحد بعد ذلك عن شرعية ودستور وقانون في أرض مصر، فهذه كلها تحتاج لكائنات تعرف معنى الرجولة وتمتلك مقوماتها، فالعدالة تحتاج لرجال عدول قادرين على الصمود أمام تسونامي النفاق والارتزاق وضحالة الفكر المتلفح بعباءة تدين كاذب.
سبق وأن اعتمدنا على المجلس العسكري متغاضين عن خطاياه بأمل أن ينقذ مدنية الدولة، واتضح أننا اعتمدنا على quot;حيطة مائلةquot; ومتهالكة، لكن يبدو أننا لن نجد أنفسنا في ذلك الموقف ثانية مع quot;الشرعية القانونية واستقلالية القضاءquot;، وقد أثبت القضاة حتى الآن أنهم جديرون بوقوف الشعب خلفهم ولن يخذلونه كما خذله العسكر، وقد صاروا بالفعل حائط الصد الأخير أمام زحف quot;المغول والتتار والبرابرةquot;. . هي واحدة من المعارك المصيرية الممتدة، حتى تجتاز مصر النفق المظلم، وتخرج ثانية إلى عالم الحداثة والتقدم.
quot; قال المستشار/ أحمد مكي وزير العدل، إنه لم يحدث أن صدر أي قرار من رئاسة الجمهورية بإقالة المستشار الدكتور عبد المجيد محمود النائب العام من منصبه، موضحاً أن القرار الذى صدر من الرئاسة بتعيينه سفيراً لمصر لدى الفاتيكان لم يشر مطلقاً إلى عزله من منصبه، وأنه (القرار) كان quot;بناء على رجاء وطلبquot;، وأضاف وزير العدل فى تصريحات صحفية، أنه سيجرى اليوم quot;السبتquot; مشاورات ومحادثات مع المستشار الدكتور/ عبد المجيد محمود، لمعرفة موقفه ورأيه من الأمر، وما إذا كان يرغب فى الاستمرار فى منصبه كنائب عام، أم أنه قد يلائمه العمل كسفير لمصر فى الفاتيكان، أو غير ذلك quot;بمطلق إرادته ورغبته ودون أدنى ضغوطquot;. . المدهش ليست في أن يصدر مثل هذا الكلام عن سيادة المستشار، فنحن نعرف سيادته جيداً، لكن المأساة في تصوره أن الشعب وصفوته وقضاته يمكن أن يأتي معهم هذا الكلام بنتائج إيجابية، وألا يكون كلامه هذا مدعاة للنقمة والسخرية ممن يعاملهم ويتحدث إليهم وكأنهم بلهاء!!
عموماً أعتقد أن عجلة هدم الدولة المصرية وأخونتها تتزايد سرعتها بصورة مطردة يوماً بعد يوم، لكن موقف القضاة البطولي وضع فيها عصا الشرعية الغليظة، لكنها لن تتوقف حتى يستطيع الشعب المصري أن يثبت جدارته بدولة مدنية علمانية حديثة.
[email protected]