لا يلجأ الإنسان إلى الماضي والحنين إليه إلا هروباً من الحاضر، أو لأنه يجد فيه ما يفتقده الحاضر، وقد يحدث هذا في حياة الإنسان الفرد لأسباب يمكن أن نعتبرها طبيعية، كأن يتذكر شبابه حين كان في أوج قوته وطموحه وأمله في الحياة، أو يتذكر أحباء رحلوا، أو أغان عاطفية قديمة سبق وأن خفق معها قلبه بالحب للمرة الأولى، لكنها قد تكون نوستالجيا هروبية انتكاسية نتيجة الفشل والعجز عن التوافق مع حقائق العصر والتعامل مع تحدياته، وقد تكون النوستالجيا أيضاً إجبارية ومفروضة على من يجد وطنه يتصدع وينزلق لهاوية سحيقة، فلا يجد أمامه سوى ذكريات ماض كان ذات الوطن يتجه فيه للأمام نحو الأرقى والأجمل.
لا أتصور أن قوة متسامية عظمى يمكن أن تكون عائقاً بيننا وبين أن نرى الحياة جميلة، وأن نستمتع بمكوناتها الطبيعية، وأن نضيف إليها من إبداع العقل البشري ما يزيدها جمالاً وروعة. . هؤلاء الذين ينشرون القبح الآن في المنطقة ويجتهدون لنشره في العالم أجمع، نرى نحن منهم قمة جبل الجليد أو ذروة الشجرة البائسة، وهي كراهية الآخر واستهدافه، لكن الحقيقة أن هذا الذي يبدونه مجرد ثمرة لشجرة جذرها كراهية هؤلاء لأنفسهم وللحياة، إذا يرونها على ضوء التحريمات والمحظورات، وأمام عيونهم ومخيلتهم العقوبات الرهيبة في جهنم بالإضافة لعذاب القبر، هذه الرؤية السوداوية للوجود الإنساني المهدد بالخطيئة والعقاب الإلهي الرادع والرهيب من الطبيعي أن تنعكس كراهية للخطيئة أو الكفر، وبالتالي كراهية للذات البشرية القابلة للخطأ والكفر، والتي ربما أيضاً تستمتع بكل ما هو حرام وتستكره ما هو حلال، على نمط ما أشار إليه بولس الرسول من أن الروح تشتهي ضد الجسد والجسد يشتهي ضد الروح، وكلاهما يرغب في غير ما يريده، ليحاول الرسول المتطهر أن quot;يقمع جسده ويستعبدهquot; على حد قوله. . هي حالة فصام وكراهية للذات، تبدأ بكراهية الشيطان الذي نعتبره مصدر الخطيئة، لكنها تكتسح بالضرورة النفس الإنسانية، لتصل لكراهية الذات واتخاذ موقف عدائي منها، ومن ثم كراهية الحياة ذاتها، ليأتي بعد ذلك كراهية الآخر واستهدافه كنتيجة طبيعية ومتوقعة.
نحن في مصر (على الأقل) نعيش في عالم من السلفيين وإن اختلفت المرجعيات: مسلمون سلفيون وعروبيون سلفيون ويساريون سلفيون وأقباط سلفيون (أرثوذكس)، وإختلاف المقولات بين هؤلاء يرجع لاختلاف في محتوى المرجعيات التي يستند إليها كل طرف لكن المنهج واحد، والمنهج هنا ليس مجرد آلية مفارقة للموضوع، بل في الحقيقة تشكل الآلية محتوى موضوعياً يخصها، ويحتل هذا المحتوى مساحة أكبر وأكثر رسوخاً من الموضوع الخاص بالمرجعية، ذلك الذي يتغير بين حالة وأخرى، فمنهجية الالتزام بالماضي يترتب عليها الاغتراب عن الحاضر والتضاد معه أيضاً، وهذا يخلق تشابهاً بين مختلف المرجعيات الماضوية، كما يكون لكل هؤلاء موقفاً موحداً من كل جديد باعتباره بدعة لدى الإسلاميين والأقباط وكل بدعة لديهما ضلالة، ويعد لدى العروبيين واليساريين الدوجماطيقيين تحريفاً وانحرافاً عن الخط الثوري والقومي وما شابه، لتكون النتيجة أن يطغى هذا التوافق على ما قد يكون بين هذه الفصائل من اختلافات، ويجعلها أقرب للتوحد فيما بينها لمواجهة العصر ودعاة الحداثة، وهذا ما نراه أمامنا في الساحة المصرية من تقارب بين التيارات الدينية وأصحاب الأيديولوجيات العروبية واليسارية ورابعتهم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية.. هي إذن السلفية ومرجعية الماضي أياً كانت نقطته، وليخرس من يتحدثون عن الحداثة والتطور للأمام، فنحن شعب مستقبله الزاهر يتوقف على ما نأتي به من خلف ظهره.
هي نوستالجيا مدمرة، ناتجة عن العجز عن مواجهة تحديات الحاضر البائس، فالسلفية التي تتخذ من الماضي مهرباً بمسمى مرجعية هي حيلة وملجأ الشعوب الضعيفة والعاجزة وفاقدة الهمة وهزيلة الملكات الإبداعية، وعلى الذين ينسبون الفكر المتعصب والمنغلق الرائج في مصر، والذي ينتشر فيها بإصرار وثبات منذ ثمانية عقود على الأقل إلى الوهابية القادمة من السعودية أن ينتبهوا إلى أن الأقباط وهم المكون المصري الأقرب نسبياً للنقاء العرقي المصري، هم أساس الانغلاق الفكري والسلفية المتمثلة في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، والتي تشكلت بوضوح قبل حوالي ثلاثة قرون من دخول الإسلام مصر، وقبل حوالي ثمانية قرون على بدء انتشاره. . التشخيص السليم هو الخطوة الأولى والضرورية للتعامل مع المرض، وعلينا أن نواجه أنفسنا بالحقيقة إذا أردنا الشفاء مما نحن فيه من تخلف موروث عن الآباء وأجداد الأجداد.
هناك نوستالجيا يضطرنا إليها الواقع المتردي، فقبل السبعينات كانت الشوارع والأسواق في سائر المدن المصرية كحدائق الزهور بأزياء وتسريحات النساء والفتيات، الآن عندما تتجول في شوارع المدن المصرية كأنك تسير في خرائب تسكنها النداهات. . الطريف أن بنات السبعينات المتأنقات الجميلات هن من يكفن بناتهن، لتصبح الحياة بلون الغروب وطعم الحنظل. . لو استطعنا بطريقة ما غرس حب وتذوق الجمال في الحياة والاستمتاع به، لاستطعنا قهر الهجمة الظلامية الارتدادية والتقدم نحو المستقبل. . شخصياً عماد فكري هو الانتماء للحاضر والتطلع للمستقبل، ومقاومة النوستالجيا التي تسحبني خلفاً لما نتوهمه من ماض جميل، لكنني الآن وإزاء بؤس وقبح الحاضر، أحد من لا يملكون إلا الترحم على الماضي والعيش في خيالاته!!
يصعب تحديد ما إذا كانت المقولات الدينية بنصوصها هي الأساس فيما نراه من قطيعة ظاهرة بين الواقع ومتطلبات الحياة وبين مقتضيات الإيمان، أم أن الأمر يرجع لطبيعة وتركيبة هؤلاء مدعي الإيمان العقلية والنفسية، بحيث يقرأون النصوص المقدسة وفق رؤيتهم المشوهة للحياة والوجود، ويجدون في النصوص التي يعكسون عليها رؤاهم مبرراً يستندون إليه في ترويج وتبرير منظوماتهم أو مشاريعهم المشوهة والمعادية لكل ما هو جميل في الحياة. . وأياً كانت طبيعة العلاقة بين هذين الطرفين وأيهما السبب وأيهما النتيجة، وإن كان الأمر أيضاً لا يخلو من تبادل وتكامل في الأدوار والتأثير، فإن الشرائع الدينية أمر يخص المؤمنين كأفراد كل بدينه، وهي علاقة شخصية بين الإنسان وربه يحاسبه وحده على الالتزام بها، ولا يحق له أن يفرضها على غيره، ليقيم من نفسه بناء عليها وصياً على الناس كمندوب مفوض عن الإله، أو يفرضها عنوة على علاقاته مع الآخر.
في غمرة طوفان التشاؤم الذي قد يكون هو الصدى الذي تتركه كتاباتي لدى القارئ، لا ينبغي علينا أن نغفل عن أن الجميع الآن في مصر قد صار مهتماً بالشأن العام، بما فيهم البسطاء الكادحون وربات البيوت، وليس فقط الشباب الذي كان لاهياً ولا يطيق حديث السياسة، كما لم يعد منهج quot;السمع والطاعةquot; أو quot;ابن الطاعة الذي تحل عليه البركةquot; من الأمور المقبولة أو الأكلشيهات المقدسة، وهنا بلاشك الخطوة الأولى من الطريق الطويل والشاق والحافل بالعقبات الجوهرية نحو الخلاص من حالة السقوط من عربة الزمن، والبدء في مسيرة ربما تستطيع اللحاق بالعصر قبل فوات الأوان. . وعلي أنا شخصياً من قبيل إبراء الذمة أمام الذات والقارئ أن أعلن رفضي تطبيق الشريعة الإسلامية على مصر الوطن، كما أرفض أن تكون أي شريعة دينية مرجعية ملزمة بقوة القانون والسلطة الزمنية في أي شأن إنساني بما فيه الأحوال الشخصية. . نحن البشر نضع القوانين تحقيقاً لمصالحنا جميعاً، دون الالتزام بأي مرجعية غير تحقيق المصلحة والعدل والمساواة، وصولاً لعالم يسوده الحب والخير والجمال.
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات