ثمة نقلة كبيرة في الممارسة السياسية الغربية،يشهد عليها هذا التحول المتسارع من الأكورا إلى الفوروم الإلكتروني.كانت الديمقراطية اليونانية،تداولا جماعيا حول تدبير المدينة،وحول الإقناع السياسي المحتكم إلى الحجج المقنعة.ثم صارت الديمقراطية تمثيلية،بحكم المستجدات المؤسساتية والاقتصادية،وبالأخص بحكم المفترضات النظرية للفلسفة السياسية الحديثة(هوبز ولوك وروسو وسبينوزا).والآن صارت ميديائية،تخضع فيها إرادة المواطنين الناخبين،كثيرا،للتوجهات الكبرى للنظيمة العولمية وللمؤسسات الإعلامية ولوسائل الاتصال الحديثة.

هل يمكن بناء الحجاج السياسي في فوروم الكتروني مفتوح ومتاهي المداخل والمخارج؟
ألا يحتاج الحجاج السياسي إلى إعادة البناء،بعد التوغل العولمي في الباتوس وفي التمثلات الفئوية المدعمة من قبل المختصين في الإشهار والإعلان وصياغة الرأي العام والتحكم في الأذواق والآراء والتوجهات الجماعية؟

علام تقوم سياسة الفوروم الميديائي؟ ما فضائلها الجوهرية؟ كيف تبني حجاجها ومنطقها السياسي؟وأخيرا، كيف يمكن ربط الصلة بين الأكورا اليونانية والفوروم الميديائي،بحيث يقوى النسق وتخرج الفعالية السياسية من الباتوس le pathosإلى الحجج المبنية على التشاور والتباحث المترويين؟

قد يملك الفوروم الإلكتروني قدرة مدهشة على التحفيز وعلى استثارة المتخيل السياسي ؛إلا أنه يحتاج إلى تفعيل أعمق للفعل النظري،حتى لا تنحصر الحوافر في التحشيد(الدفاع أو الاحتجاج على الزواج للجميع بفرنسا مثلا) دون اقتراح أو صياغة الأفكار السياسة الخلاقة، أو الاستطراف الفني الفاقد للجوهر المعرفي (المجازات،السخرية،المفارقات،التوريات،المحاكاة الساخرة،نقد فريجيد بارجو frigide barjotمثلاhellip;hellip;hellip;hellip;hellip;الخ).

كان التفكير في الأكورا،محكوما بربط التفكير السياسي،بتناسق الكون.ثمة انتظام واتساق كوني،لا بد للتفكير السياسي،من مراعاتهما والتمثل بكمالهما.أما التفكير الفورومي،فلا يتوخى بلوغ الكمالات ولا التوافق مع الكوسموس المنتظم والمتناسق،بل التماهي مع آليات السوق النفاثة وتقنيات الإعلان والتسويق السياسي.لقد انتقلنا، من الوعي المدني إلى التمثل المديائي،ومن الإنسان المديني ndash;المدني إلى الإنسان السبرنيتي- المديائي.
انتقال الديمقراطية من الأكورا إلى الفوروم الإلكتروني،أغرق المتصور السياسي في التجريد،وفي التقطع وفي الافتراضية.فالحجاج الميديائي،إبهاري،لحظي،يخدم،مستقبل العارض، في الغالب لا قضية نظرية أو شأنا عاما، على المدى المتوسط أو البعيد.ثمة تسويق،شخصي، خلف كل تدخل فردي، بحكم القدرات الاستقطابية الكبرى،للمؤسسات الإعلامية والترفيهية،الباحثة عن النجوم والأبطال وأصحاب القدرات الجسدية أو الجمالية أو الفنية المتميزة( مثل رومبو والإخوة جاكسون والمغني جوني هاليداي والأشخاص المفضلين لدى الفرنسيين(جون -جاك كولدمان الآن) وقاهري المسافات أو الأمراض المستعصية (كالسرطان)أو الرضات النفسية الكبرى ( الاغتصاب أو الاحتجاز أو العنف الجسدي ) أو الهشاشة الاجتماعية والطبقية أو التهميش الإثني مثلا...).

كان الفوروم الروماني يضفر المخيلة والعقل،في جديلة واحدة،والتخييل والاستدلال في ضفيرة واحدة.أما الآن، فقد صار الفوروم الإلكتروني،ملتقى كائنات افتراضية،ذات آليات تفكيرية وتفهمية متضاربة،مما يفصل المخيلة الفنية عن العقل السياسي،ويحكم على الدلالات السياسية بالشحوب والنضوب أو بالتردد على الأقل.

هل يلغي الفوروم الإلكتروني فعالية الأكورا،في مجتمعات متذررة اجتماعيا ومفردنة،ومنزوعة الفاعلية السياسية والنقابية؟.(لاحظ التراجع المعمم للعمل النقابي في بلدان الاتحاد الأوروبي.).فتفكيك الروابط الجماعية،مسار أول في مسارات،توجيه الإنتاج السياسي والمشاركة السياسية في تدبير المجال السياسي الوطني والقاري.والتفكيك رهين بنقل الفرد من بؤرة المجموعة الوطنية والقارية إلى بؤرة العالم السبرنيتي،إلى سطح شاشة الحاسوب المحمول النهمة.صار الكل مشغولا بحاسوبه وآلة تصويره وهاتفه المحمول،يعيش،الأحداث من خلال زجاج،ويبحث عن الوسائط في كل شيء.صارت التقنية،أداة لازمة للتواصل وللاقتراب من الأشياء مهما كانت بسيطة أو سهلة المأتى.لم يعد الفهم أو إدراك الحيثيات والحوافز والمنتظرات هو هدف المشاركة الميدانية في الوقفات الاحتجاجية أوالمظاهرات والاعتصامات والعروض الكرنفالية الشعبية والعروض المخصصة للتعابير الثقافية لمنطقة البروتون أو لاسكتلنده أو ايرلندا،بل التوثيق الاستطرافي،أو المتعة الاحتفالية المقرونة دوما بالاستثمار الفردي البعدي من خلال اكتساب العلاقات الجديدة ودعم الرأسمال الثقافي الشخصي أو تقوية شبكات التواصل أو دوائر التبادل أو من خلال المشاركة في العروض التلفزية أو الحلقات الإذاعية أو المعارض الفنية أوالثقافية أوالفلاحية.

وكما لا ينتج الفوروم الإلكتروني متخيله السياسي الخصب،فإنه لا يطور لغة سياسة متماسكة،تكون بوابة ولوج الأفكار المتناسقة والدلالات الخيالية المتماسكة.لقد انسحب المثقف الميداني (السارتري أو البورديوي أو الفوكوي...)،من الساحة،بعد تراجع المثال الاشتراكي أو بعد موت المعرفة أو السلطة،فوجد quot;العاملquot; نفسه بلا غطاء نظري، ولا مبلغ فصيح قادر على فهم وتفهم الماجريات السياسية والخفي في السياسات الاقتصادية وأنماط التدبيرالعولمية.صار الفوروم الإلكتروني،ملتقى quot;البروليتاريا الجديدة quot;،الهاربة من برودة الانكماش والأزمات الاقتصادية والمالية (أزمة 2008-2009)وأزمة دولة الرعاية الاجتماعية و ترددات منطقة الأورو.

يحصر الفوروم الإلكتروني الفرد في حيثياته الخاصة،فيما يستحثه التفكير الجماعي وسط المجموعة المشخصة على تقدير أعمق للإشكاليات المجال السياسي،وللنتائج الأخلاقية للفعل وللممارسة السياسية الآن ومستقبلا.لقد صار المجال السياسي في الديمقراطيات التمثيلية،باهتا،بالقياس إلى ما سبق،بالنظر إلى الفردنة المستشرية إلى حدود كبرى،وتغيرات أنماط الإنتاج والتنظيم داخل بنيات الإنتاج،وتقلص مساهمة الأنتلجانسيا في دعم المتصورات السياسية البديلة والرفع من النصاب الفكري للنقاش العمومي، وإدخال التقنيات المشهدية في المقارعات السياسية (الانتخابات الرئاسية الفرنسية الأخيرة مثلا).

ففيما ارتكزت القيادة السياسة عادة على التفرد(تفرد الفرد الكريزمي مثل كليمونصو ودوكول مثلا) وعلى البرنامج السياسي المسطر والخاضع لنظيمة(اشتراكية أو ليبرالية..الخ)،صار التشابه مع المواطنين أداة للاستحقاق السياسي،والانفعال الشخصي (تذكر السيرة الذاتية بانفعال، العطف على الأم أو الأب،التعاطف مع المواطن العادي ) lrsquo;eacute;motion برنامجا للإقناع.

غياب الأنتلجانسيا،عن التناظر السياسي،يعني قصر الجدال السياسي، على الجدال القريب من الحيثيات الصحافية أو الإعلامية أو تقديرات مراكز ومكاتب الدراسات،لا على مفردات الفلسفة السياسية والفلسفة الأخلاقية وممكنات التاريخ في اللحظة العولمية الراهنة. والانحصار في الراهن،يعني البقاء في إطار ممكنات السوق والبورصة وتقلبات استطلاعات الرأي وتناقض أراء الاختصاصيين بعد كل أزمة غير متوقعة.

الفوروم الإلكتروني،محتكم لمتطلبات الفضاء السبرنيتي ولمجتمع المشهديات الفرجوية ؛ فهو أبعد عن الاحتفال بالحقيقة(بما في ذلك حقيقة النسق العولمي نفسه)، وأقرب إلى المستنسخات(واقع المرايا المهشمة والحقائق الإشهارية).

لا يهم الخط البياني للحقيقة في الحجاج السياسي كما في الأكورا اليونانية، وفي التجمعات السياسية والثقافية،أثناء لحظات تطور النقاش العمومي في اللحظات الخصبة للديمقراطيات التمثيلية (كما في الجمهورية الفرنسية الثالثة)، بل يهم الخط المشهدي للفرجة الميديائية.لا تهم حقيقة المجال السياسي، ولا كيفية انبثاث السلطة أو المعرفة فيه،بقدر ما تهم تقنيات العرض والإبهار والإخراج الفني.ثمة تسويق إعلامي،يحايث المحاجة السياسية،ويتجاوز الحقيقة السياسية إلى quot;الغنيمةquot; الاقتصادية.العرض الفورومي،يعاين السياسة بعين،فيما تنصب عينه الأخرى،على الاستطراف الاجتماعي (النجومية،السهرات التلفزية، الإعلان، السينما، الكتابة الشعبية،حسن التموقع الاجتماعي............الخ) وعلى آليات الاستثمار المادي (التعويضات والنجومية والعلاقات العامة والخاصة.................).

(للمرة الأولى، يتم التعبير عن الحقيقة والسلطة بألفاظ كمية وليس بألفاظ كيفية.صار المعيار معادلا للمعدل الإحصائي.تخلى المعارف التقليدية، مكانها لاستطلاعات الرأي،وللتسويق.

فكلمات مثل تلفزوقراطية وفيديوقراطية،وهي متعارضة فيما بينها على ما يبدو، تعتبر في الحقيقة مفهوما واحدا.ففي عصر الفيديو، تصير سلطة الجموع حقيقية.يتعلق الأمر بديمقراطية أو بسلطة شعبية، مصفاة عبر الشاشة. ولكن يتعلق الأمر كذلك بسلطة،ترفض باسم الأغلبية، كل نمط من التحديد والمراقبة،مدشنة نوعا من الديكتاتورية : أي ما يمكن تسميته ب: ديمقراطية مضادة للديمقراطية.)
Carlo Freccero- Savoir et pourvoir agrave; l'egrave;re de la videacute;o-Magazine litteacute;raire-n325-octobre 1994-p.32)

في السابق ارتبطت المعرفة بالخاصة،بالانتلجانسيا،والآن،صارت رهينة التصويت الجماعي،صارت رهينة عدد الليكات المجمعة وعدد المنخرطين في الصفحة الإلكترونية.والليكات،تنال باستجماع جمال الصورة وقوة الأداء التعبيري،وإتقان فنون العرض والإمتاع والإيحاء.من الواضح،أن معيار التفضيل،يرتبط،لا بقوة الحجة والاستدلال،بل بإجماع الجموع وافتتانها،بعرض من العروض أو بأداء من الاداءات.صار النقاش السياسي،في المسافة الوسطى،بين العرض الفني والتسويق الاقتصادي.ففيما توخى تدبير المدينة،تحقيق التناغم الأصلي،واستكمال الكمالات،فإن تدبير الفوروم،يستهدف الاستجابة للمنتظرات الفردية والفئوية،بالذات.

يحتل الفوروم الالكتروني والدردشات التعويضية،واجهات المشهد الميديائي،ليمتصا الفعالية السياسية المفترضة في المواطن المنتمي إلى زمانه،افتراضا،بحكم الوعي المكتسب والانتماء إلى مجتمعات عرفت طويلا النضال السياسي من أجل الدقرطة والعدالة الاجتماعية وتقوية الحقوق الاجتماعية في إطار دولة الرعاية،وتمديد الجسور بين التربية والتثقيف العام والمجال السياسي.فكما تحول غرف الدردشة،الحب المرتجى،إلى استيهامات إلكترونية،فإن الفوروم يحول الحجاج السياسي، إلى مجرد صور افتراضية،للمتعة الفنية لا للإقناع العقلي،للمشهدية الامتاعية لا لبناء رأي سياسي قوي وحصيف.

صار الديمقراطية الميديائية، الآن،إحدى وسائل تغطية quot;السياسيquot;،وحجبه وحصره في قوى السوق وفي قوى الإعلام المشهدي.أما الجموع المحررة من الطوبى منذ تحطيم جدار برلين واندحار الاشتراكيات وتقويض المثقفين لأحلام ثورة 1968 الخلبية،فإنها تبحث في البلاغة المتشظية والسخرية السوداء عن تعويض عن استهلاك ما فتئ يتناقص وفرص شغل مهددة بالإلغاء ومستقبل مهني معلق ومكتسبات اجتماعية ونقابية غير محمية خصوصا بعد هزات-2009-2008 بالولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا واليونان وايطاليا وارلندا واسبانيا...الخ).

تقترح الرأسمالية النفاثة إذن،المديائية النفاثة،الجامعة بين الدردشة التعويضية أو الإعلائية في غرف الدردشة بين المحرومين من أسطورة الحب الخالد،والفوروم السياسي المشهدي الجامع بين المشهدية التسويقية والنقد السياسي المتغندر.

عالم الديمقراطية الميديائية،هو عالم الحقيقة الرخوة،والنسخ المتماوجة،والنماذج المستنسخة.

هل يمكن لفضائل الأكورا،أن ترشد الفوروم العصري،و أن تكسبه بعض السماكة النظرية وبعض الحكمة العقلية؟