حين يُهدَّد الإنسان في قوته وأمنه، يتذكر quot;الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوفquot; فتصيبه الدهشة. وحين تهدر كرامته وهو لا يقوى على الذود عنها، يتذكر quot;ولقد كرمنا بني آدمquot; فيصيبه الذهول. وحين يفقد القدرة على الرقاد، يتذكر quot;وجعلنا الليل لباساquot; فيصيبه الارتباك. وما بين الدهشة والذهول والارتباك، تولد بذرة الشك، فتكبر وتكبر حتى تصبح ماردا ينسف المفاهيم ويعيد تركيبها كما يراها هو، فالأفكار تولد من رحم التجارب ولا تملى إملاء من زيوس المتربع على عرشه على جبل الأولمب.

المصالحة تعني تقريب وجهات النظر المتباينة وتضييق الفجوة بينها وكما يختلف البشر فيما بينهم تحتلف النفس مع ذاتها والاختلاف مع الذات نوعان: نوع متعمد مقصود ونوع لاإرادي وغير مقصود يؤرق صاحبه ويدخله في صراع مع نفسه قد ينتهي، أو قد ينتهي العمر قبل أن يحسم. أما النوع المقصود فهو شائع وطبيعي إذ كثيرا ما يخفي المرء قناعاته ويسلك حسب ما يريد الآخرون كي لا يتعرض للعقاب الاجتماعي والإقصاء عن الجمهور ويتجلى ذلك في ظواهر مختلفة كالصلاة دون أن يدخل الإيمان القلب والحجاب دون تبلور مفهوم الستر والزنا في الخفاء وتبجيل الحاكم الظالم وغير ذلك.

أما النوع غير المقصود فهو الذي يجعل صاحبه يتأرجح بين القناعات لعدم وجود دليل بحسمها وهذا النوع منتشر بين الباحثين عن الحقيقة في الأمور المعنوية التي لا تخضع للفحص المخبري وأهمها تلك التي تتعلق بثنائيات شائكة كالوجود والعدم والعدالة والظلم والسعادة والشقاء. وقد دأبت الشعوب منذ فجر التاريخ على البحث عن إجابات لأسئلة ليس لها إجابات وبرز أرسطو في الحضارة الإغريقية بنظرية إخضاع الأمور للمنطق والاستدلال العقلي للتوصل إلى إجابات. بيد أن المنطق شيء والعلم شيء آخر فكما يقود منطق إلى وجود إله للأرض وآخر للسماء وآخر للمطر وآخر للريح، يقود منطق آخر إلى الوحدانية وهكذا يستمر المناطقة في الجدل دون حسم.

والنفس لها مناطق متضاربة فتارة تستقر على استنتاج ثم تنبذه في اليوم التالي وكما جاء في الحديث quot;يمسي المرء مسلما ويصبح كافراquot;. وهذا جانب من الصراع مع الذات، وثمة جوانب أخرى وقديما قال سقراط quot;إعرف نفسكquot; وقلة هم من يعرفون أنفسهم أو حتى يحاولون أن يعرفوها فإذا سألت إنسانا من أنت؟ ستحصل على إجابات متشابهة على شاكلة quot;أنا إنسان عادي أحب الخير للناسquot;. وإذا خلا لنفسه يشتبك في صراع معها فإذا هو بركان من الأسئلة والحيرة حول كنه الحياة ومغازي السعي ومكانه في هذا الوجود ولماذا تزوج وأنجب وهل على الأرض ما يستحق الحياة. وبينما قدمت الأديان إجابات تريح النفس يمر الإنسان بتجارب تتعارض معها كأن يغريه مال سهل المنال فيسارع للانقضاض عليه وإذا خلا لنفسه يبدأ الصراع معها يلومها وتلومه وكثيرا ما يفشل في التصالح معها ويستمر يحيا في ازدواجية ويريح نفسه من عناء التوصل إلى مصالحة معها ولعل الأمثلة كثيرة جدا على رجال دين امتلأت جيوبهم بالمال وبيوتهم بالنساء وباتوا يرتعون بالملذات متناقضين مع المبادئ التي تبنوها وظهروا على الملأ متسربلين بثيابها.

ولا يقتصر التضارب على المستوى الفردي بل هو يتعداه إلى المستوى الجمعي، ولو تأملنا الاختلافات بين الشعوب الاقل تطورا والشعوب المتقدمة للمسنا أن التناقض مع الذات لديهم ضئيل جدا بالنسبة للحال لدينا. فترى الفرد لديهم يقول quot;هذه طريقة تفكيريquot; دون خوف أو وجل بينما يرتعد المرء لدينا أن يبوح بما يشعر

أو يعترف بأنه يعيش ازدواجية فكرية ومسلكية: واحدة أمام الناس وواحدة بينه وبين نفسه. لذا يخشى الناس من بعضهم ويخفون حقيقة فكرهم ومشاعرهم حفاظا على أنفسهم وسلامة موقعهم بين الجمهور.

في ظل هذا التضارب، هناك تفسير لكل شيء حتى وإن كانت الأدلة متضاربة، ويكون تفسير التضارب هو أن الدليل الثاني نسخ الدليل الأول. وعلى كل فرد أن يقتنع ويصمت حتى يقال quot;عاقل ما شاء اللهquot; ويسلم من التندر به وبتفلسفه على موائد الناس، وبالطبع فلا أحد يروق له أن يكون فاكهة المجالس.

وما من شك أن هذا التأجيل في حسم الصراع مع الذات ضريبته باهظة، ويدفع ثمنها الجميع بدون استثناء حتى الانتهازي والطاغية. لأن المرء يؤثر سلامته الوجودية على الإصلاح العام، فتكون النتيجة مجتمعا هلاميا باهتا ومتقهقرا. إن بذرة الخوف الأولى غرست عميقا في الأفئدة، فاتشح كل شيء بلونها فلاذ الجميع بالصمت وهم يرون كل شيء يضيع منهم أمام أعينهم. فإذا جادل أحدهم، كان كالمجامل الذي يقول ما لا يعني. فمتى نتصالح مع أنفسنا ونعرف ماذا نريد؟