من مفكرة سفير عربي في اليابان

صدر مؤخرا كتاب جديد في طوكيو، وأحببت أن يسمح لي القارئ العزيز أن أشاركه في مناقشته. فمع بدايات اللألفية الثالثة بدأت تتغير الخارطة الإستراتيجية للعالم، مترافقة ببدء غروب جبروت الغرب وشروق حضارة الشرق من جديد. وتبقى الأسئلة المطروحة: هل فعلا سينتهي الدول الإستراتيجي للغرب ألأوربي الغربي والأمريكي؟ أم ستتبعثر القوة لتشارك عدة قوى دولية ومدنية قيادة سفينة العولمة في الألفية الثالثة؟ وهو سيترافق الشروق الشرقي بالصعود الأسيوي، ومن سيقود هذا الصعود الصين أم اليابان؟ وهل ستستوعب منطقة الشرق الأوسط هذه التغيرات القادمة، لكي تحدد استراتيجياتها المستقبلية، وتختار الحلفاء المناسبين لتحقيقها؟
لقد تعمق الاقتصادي والباحث الفرنسي، كلود ميير، في دراسة العلاقات الإستراتيجية والسياسية والاقتصادية بين اليابان والصين. حيث درس العلوم الاقتصادية بجامعة باريس، وتعمق في دراسة اليابان والصين بجامعة السريبون الفرنسية، وعمل أستاذ بعدة جامعات فرنسية، وبجامعة كيو اليابانية، وجامعة كولومبيا ألأمريكية، كما عمل كنائب للمدير العام لبنك طوكيو بباريس. وقد صدر له مؤخرا كتب بعنوان، الصين واليابان من سيقود منهم أسيا؟ يقول الكاتب في مقدمة كتابه: quot;كانت أولمبيا عام 1964 في طوكيو، كرمز لنهضة اليابان، لتصعد اليابان لثالث اقتصاد عالمي، بعد الولايات المتحدة، والاتحاد السوفيتي. وبعد أربعين عاما توجت الصين في أولمبيا بكين عام 2008 بصعودها من جديد في المسرح الدولي كثاني اقتصاد عالمي ... وقد يكتشف السائح الفضولي بأن التقدم التكنولوجي، الذي انعكس في برج شنغهاي بارتفاعه 492 متر عن سطح الأرض، هو من صنع مهندس ومقاول ياباني يسمي quot;موريquot;. وقد ينظر المتفاءل لذلك كبذرة تعاون صيني ياباني، القوتين المهيمنتين في أسيا. ومع ذلك فقد تدهورت علاقاتهم السياسية في العلاقات الدولية كثيرا، بالرغم من أن علاقاتهم التجارية بلغت ذروتها وبسرعة مذهلة.quot;
كما ناقش الكاتب التغيرات المستقبلية بقوله: quot;يبدو بأن الصين واليابان كاقتصاد عالمي ثاني وثالث، يتصارعان على قوة الهيمنة في أسيا، حيث هي في طريقها لتكون مركز القوة الاقتصادية القادمة. فقد كان القرن التاسع عشر من نصيب أوروبا، والقرن العشرين من نصيب أمريكا، بينما لن يكون هناك شك بأن القرن الحادي والعشرين هو القرن الأسيوي. والأصح أن نقول بأن أسيا سترجع إلى مركز الصدارة في الاقتصاد العالمي، والذي تزعمته قبل هبوطها في القرن التاسع عشر. فتنتج المنطقة الأسيوية الباسيفيكية اليوم حوالي 25% من الاقتصاد العالمي، مقارنة بإنتاجها 12% في عام 1970. ومن المتوقع أن ترتفع هذه النسبة إلى 35% في عام 2020، بل وحتى 50% في عام 2050. ويمكن أن نعبر بلغة المال بأنه 60% من المدخرات العالمية موجودة في الدول الأسيوية، وتتصدرها الصين واليابان.quot;
وتقول الحكمة الصينية في الاستراتيجيات العسكرية بأن تعتبر جارك صديق ومنافس، وقد ينطبق ذلك على اليابان والصين. فقد كانتا الصين واليابان أصدقاء منذ عام 1978 بعد معاهدة السلام والصداقة بينهما، ليتعاونا في كثير من المجالات منذ ذلك الوقت، ولتؤكدا قيادتهما مرارا بأهمية هذه العلاقة الاستراتيجية المفيدة للجانبين. كما قامتا هاتان الدولتان في عام 2009 بتدريبات عسكرية مشتركة للتعاون في عمليات الطوارئ ضد الكوارث الطبيعية، وقد يعكس ذلك دور التعاون المشترك في المحافظة على أمن هذه المنطقة، وربما أيضا مع كوريا الجنوبية. كما أن هناك تعاون صيني ياباني من خلال أسيان+3 والتي هي المجموعة المفضلة للتعاون الاقتصادي والمالي من قبل الصين، بينما تفضل اليابان التعاون من خلال أسيان+6 والتي تضم الهند واستراليا ونيوزيلاندا. ومع كل ذلك التعاون التجاري والاقتصادي هنا توتر سياسي بارز، وقد كان واضح في أزمة جزر سانكوكو. فبالرغم من عمق التعاون الاقتصادي يبقى هناك انعدام ثقة تبعد الصين واليابان عن بعضهما البعض، من خلال تفسير الماضي أو الحاضر أو المستقبل، فذكريات الجروح التاريخية القديمة لم تندمل، كما أن صعود المد القومي اليوم يخلق طموح تنافس مستقبلي بين البلدين.
ويعرض الكاتب ثلاثة احتمالات للعلاقات الصينية اليابانية المستقبلية، والتي قد تضم بعدم قبول اليابان بالهيمنة الصينية المستقبلية،أو صدام بين عدوين متنافسين، أو تعاون بين شريكين يكملان بعضهما البعض. والمشكلة التي ستواجها العلاقات الصينية اليابانية مستقبلا، هي أن الصفحات السوداء في تاريخهم المشترك حجب بالصمت، ولم يساعد ذلك على التئام جروح الماضي. وكنتيجة لكل ذلك تبقى قدرة الدولتين منحصرة بين جدلية الافتنان والامتعاض، والتي هي سبب لاستمرار تشوه العلاقة بينهما. كما لم تساعد في ذلك ثقافة وأخلاقيات الصين الكونية التي تحمل ختم الصين الامبراطورية، حيث رفضت اليابان إدعاءات جارتها الضخمة الكونية. وبالعكس استفادت اليابان من لحظات الضعف الصينية لتغزو الصين وتفرض عليها طموحات هيمنتها. وقد دمغ وحشية الغزو الياباني السيكولوجية الصينية حتى اليوم، ومع أن كل ذلك تاريخ مؤلم للشعوب التي اضطهدت من اليابان، ولكن ندبة تلك الفترة تعمقت في الذاكرة اليابانية، بعد أن عانت اليابان كدولة وحيدة في تاريخ العالم من الهولوكوست النووي، والذي أنهى مغامرات اليابان العسكرية. وصعوبة كل ذلك هو أن اليابان لم تستطع التوصل لتوازن بين المعاناة التي فرضته على الاخرين، والمعاناة التي كانت عليها تحمله، مما ادى لتأخير الاعتراف بأن الماضي يمكن أن يفتح الطريق لمعطيات المستقبل. ويعتقد الكاتب بأنه بدون الملائمة الضرورية بين الشعبين الصيني والياباني، والإصرار السياسي من قياداتها، ستبقي فكرة التعاون الحازمة والمتفائلة بين الصين واليابان على نهج الطريقة الفرنسية الالمانية غير ممكنة خلال العقدين القادمين.
كما يعرض الكاتب الاحتمالات المتوقعة للتعاون بين الصين واليابان بقوله: ففي المرحلة الأولين وخلال العشرين سنة القادمة ستكون الهيمنة الصينية واليابانية بالمشاركة في أسيا وبصورة غيرة مستقرة، بل ومع تصادامات متكررة. وستستمر اليابان في المحافظة على تفوقها التكنولوجي والمالي بالرغم من جهود الصين في منافستها، بينما ستترك الصين بصماتها السياسية والاسترتيجية في أعادة تنظيم المنطقة، كما سيفرض الواقع موقتا قيادة مشتركة بين الصين واليابان، والتي ستكون في صالح البلدين، لتهيمن اليابان على المجالات الاقتصادية والمالية، بينما ستهيمن الصين على المجالات السياسية والإستراتيجية، وخاصة في الأمور الأمنية. وستكون هذه الترتيبات في صالح البلدين، حيث ستستفيد اليابان من توسع سوق الاستهلاك الاسيوية، ليقلل من تأثيرات التغيرات الديموغرافية اليابانية، التي ستودي لانخفاض سوق الاستهلاك اليابانية. بينما ستحاول الصين أن تثبت قيادتها الاستراتيجية في المنطقة الأسيوية، لتستطيع أن تقنع العالم بدورها في القيادة العولمية، التي تطمح الصين تحقيقها. كما أن هناك علامات تدل بأن هذه القيادة المشتركة قد تنتهي للمواجهة، ولتؤدي للهيمنة الصينية على اقتصاد هذه المنطقة.
وقد تبدأ المرحلة الثانية مع قرب عام 2030، ببروز نظام اقليمي جديد، وسيعتمد توازن هذا النظام على مدى التكامل والتكافل في المجتمع الاسيوي. وتتمتع اليوم اسيا بأعلى نسبة نمو اقتصادي في العالم، وسيؤدي ذلك لنمو الطبقة المتوسطة، والتي ستلعب دورا في توجيه النمو الاقتصادي نحو الحاجة لزيادة الاستهلاك المحلي، وسيستمر التكامل الاقتصادي، وسيتوسع التعاون في مجالات ألأمن الاقليمي، وضرورة التخلص من الفقر، ومحاربة الأوبة، والعمل على حماية البيئة. كما ستعمل الصين لتفرض نفسها كالقائد الاسيوي اقتصاديا واسترتيجيا، وقد يفرض ذلك الواقع عليها أن تحل محل اليابان كقائد اسيا الاقتصادي، ولتوقف طموحات اليابان الاقليمية. كما أن طموحات الصين للقيادة الاسيوية هي خطوة أولى نحو قيادة عالمية. فلم تنسى الذاكرة الصينية مملكتها المتوسطة، وكمركز قيادي للكون، فروية الصين واضحة نحو قيادتها العالمية مع ثقتها في مؤهلاتها الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية التي ستحقق طموحاتها المستقبلية. بينما طوت اليابان صفحة طموحاتها في المغامرات العسكرية، ولم تعد تجد مستقبلها في الهيمنة الاقليمية، بعد أن زالت اية رغبة لذلك منذ التسعينيات، بعد الكارثة الاخلاقية والاقتصادية التي سلبت اليابان دورها الوطني الطموح. والتهديد المستقبلي الذي ستواجهه اليابان هو عدم قدرتها على تصور واقعها المستقبلي، وقد يبعث مشروع المجتمع الاسيوي للحزب اللبرالي الديمقراطي الحاكم حياة جديدة في ما تحتاجه اليابان، وهو الأمل. وبينما نلاحظ الصين تركض بشوق نحو المستقبل، تحمل اليابان قدميها بتثاقل نحوه. كما قد تنظر الصين لمستقبل زاهر، تبقى اليابان متحررة من اوهام العظمة المستقبلية. وبينما تتاجر الصين بمغامرة في المستقبل، تعمل اليابان على حماية ما بقي من مصالحها الماضية. وستستمر اليابان في العمل على الدفاع عن تفوقها الأسيوي كحق ولادة شرعي، معتمدة على تقدمها الاقتصادي، وتطورها التكنولوجي، وديمقراطيتها السلمية، وقوتها المدنية العظيمة الموجهة لخدمة المجتمع. ولنا لقاء.
سفير مملكة البحرين في اليابان