يمكن القول إن مما يجمع بين التجارب الثورية موضوع المقال هو طغيان دور العوامل السياسية والثقافية- الفكرية في مسار الانتفاضات، وذلك من دون التقليل من عوامل التخلف الاجتماعي العام والتدخل الخارجي.
هذه الحركات المشروعة والرائعة، التي اندلعت عفوية أو شبه عفوية، كانت احتجاجا على أنظمة عجزت عن تحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية والعيش الأفضل والحرية للشعوب. وكما نعرف، فثمة فروق كبرى بين الحكام الذين تحرك ضدهم الشارع؛.فابن علي ومبارك، وحتى الحاكم اليمني السابق، لم يكونوا طغاة شموليين دمويين كصدام والقذافي وبشار الأسد، الذي ضرب الرقم القياسي في تدمير البشر. أولئك كانوا، مع اختلافات، يمارسون الحكم الفردي، ويتشبثون بالسلطة، وعجزوا عن مكافحة البطالة والفقر بنجاح، ولم تخل فترات حكمهم
من الفساد العائلي والحزبي. وبسبب هذه الطبيعة الفردية، ولكن غير الدكتاتورية الشمولية الدموية، سارت انتفاضتا تونس ومصر في طريق النضال السلمي، بالعكس مما جرى في ليبيا، وما جرى ويجري في سورية، التي تجاوزت معاناة شعبها معاناة بقية الشعوب العربية..
إن الحالة المصرية، وبعد الحالة العراقية قبلها، تلقي ضوءا لفهم ما جرى وما وصلت الأوضاع إليه. وجميعنا يتذكرون هوس الاندفاع الشبابي المستمر في الشارع بعد تنحي مبارك، واستمرار التظاهر والاعتصام والنفخ في التخويف من quot;الفلولquot; وكأن كل من خدم في عهد
مبارك هو عدو متحفز للانقضاض. وهذا ما حدث في وتونس أيضا، ومن فبل في العراق. ونتذكر هوس رفض كل خطوة وإن كانت جيدة، والمطالبة بتجريم حزب مبارك وحزب بن علي مع أنهما كانا يضمان كفاءات نظيفة وقديرة يحتاجها البلدان لضمان استمرار الدولة
والاستقرار ومعالجة المشاكل الاقتصادية . وكان المفترض الاكتفاء بطلب محاسبة من ثبت عليهم الفساد واستغلال السلطة أو التورط بالدم المصري، وترك المحاسبة للقضاء..كما نتذكر ملاحقة عادل إمام وتنظيم قوائم بأسماء فنانات وفنانين وصحفيات وصحفيين كعملاء للنظام السابق ووجوب عزلهم وملاحقتهم. ويذكرنا الأستاذ كمال غبريال في مقاله الأخير بالقرارات الأربعة لمبارك، وهي عدم ترشيح نفسه، وعدم ترشيح نجله، وتعيين احمد شفيق لرئاسة الوزراء، والدكتور البدراوي، اللبرالي الحداثي، لأمانة الحزب الوطني. كانت خطوات
مهمة، وكان مفروضا دعمها للانتقال بها لخطوات تدريجية أكبر نحو الاستقرار والسير بمصر نحو حياة أفضل. ولكن المعارضة الشارعية الشبابية لم تأبه لذلك، بل واصلت الدوران والثوران، وكأن التظاهر والاعتصام هدفان بحد ذاتهما. وهو ما استغله الإخوان المسلمون
بدهاء، وبالاعتماد على قوة تنظيمهم وعلى خطابهم الشعبوي المتاجر بالدين وعلى أموالهم، أي أموال أممية الإخوان. وعندما كاد المرشحان أحمد شفيق ومرسي يتساويان تقريبا في الأصوات، اعتبرت المعارضة الشبابية [من يسار ومن قوميين ناصريين ومن فوضويين دعاة الثورة الدائمة] والمعارضات الحزبية المدنية التقليدية أن نجاح شفيق هو الكارثة وليس نجاح الإخوان. وكان ما كان من استحواذ الإخوان على مفاصل الدولة والمجتمع وإقصاء الآخرين والتنكر لهدف الحرية والديمقراطية. ومن حسن الحظ أن التطورات اللاحقة كانت تصحيحا لازما، ولكنه لا يزال في بداية الطريق والمصاعب كبرى. ونحن نتمنى نجاح الوضع الانتقالي في تنفيذ خارطة الطريق بنجاح. والملاحظ كيف أن الشباب إياه يرفض ترشيد حرية التظاهر كما هو الحال في الدول الديمقراطية الغربية وكأنما حرية التظاهر نقيض للقانون والترشيد!