يغلب لدى القريبين من دوائر صنع القرار الغربي ومتخصصي العلاقات الدولية، سؤال: لماذا تريدون الإطاحة بالأسد؟!. يرى هؤلاء عبر تنظيرهم من نقطة أن الإطاحة بالأسد ليست حلا فالقتل سيستمر حتى من بعده، فتزويد السلاح ودعم المعارضة سيجعل لدينا قوى من غير الممكن السيطرة عليها وستفسد الوضع في سوريا.
هؤلاء quot;الدبلوماسيين الجددquot; ينطلقون من موقف quot;صنّاع القرارquot; لديهم. فمادام أن السياسي لا يريد التحرك، فهناك الكثير من الأسباب والتحليلات التي تحاول المساعدة على إبقاء موقفه قوياً، حتى لو كانت هذه الأسباب تتمثل وتتجلى فقط في إطلاق تساؤلات عن وضع مستقبلي غامض وليس مثبتا حتى الآن!.
علينا أن نتذكر أن الربيع العربي قد انطلق في ذات الوقت الذي توقفت فيه أميركا عن محاولاتها لفرض الديمقراطية في المنطقة، بعد أن بدأها بوش الابن في بدايات العقد السابق. بدأت أميركا التخطيط لسحب ثقلها من الشرق الأوسط والتعامل مع وضعه القائم كما هو. وهذا هو ذات الوقت الذي بدأ الغرب فيه في تطبيع علاقاته مع قوى الاستبداد (الجمهورية) في المنطقة عبر عدد من المحافل. ففي السنوات الأخيرة أنهى الغرب قضية quot;لوكربيquot; مع القذافي، وأصبح توني بلير (رئيس بريطانيا السابق) مستشارا له، وتم اعتبار سيف الإسلام القائد السياسي المعتدل والمطلوب. وأيضا، طبّعت أوروبا في هذا الوقت علاقاتها الاقتصادية مع الأسد، ودعاه ساركوزي لحضور احتفال اليوم الوطني في فرنسا. إذن ليست مشكلة الربيع أنه أفسد تعويل الغرب على خطه الاستراتيجي الجديد!.
خبراء العلاقات والتخطيط الاستراتيجي ينطلقون عادة من مسار السياسي ويبررون بناء عليه. حين أرادت أميركا غزو العراق كانت قد بنت ذلك على فرضية أسلحة لم تكن مثبتة، لكن في ذات الوقت شاهدنا كمّاً وافرا من التبرير العجيب لضرورة هذه الحرب!. اليوم لأن الغرب لا يريد التدخل وإيقاف الدم السوري (حتى لو عبر إجماع دولي)، نشاهد كم التنظير الوافر الذي يبرر حتى عدم تعطيل طائرات الأسد، بحظرها أو التشويش عليها، وهو أضعف الإيمان. هؤلاء يرون اندفاع السعودية وقطر لطلب دعم التسليح خطأ، مع أن المنطلقات مختلفة. فكما أشرت هنا، المنطلق لديهم هو موقف السياسي، بينما موقف السعودية وقطر طبيعي وليس مبنيا فقط على رغبة السياسي، بل السياسي في هذه البلدان مدفوع أيضا بالرغبة الشعبية العارمة في البلاد العربية والمتعاطفة بشكل كبير مع أسى وعذاب الشعب السوري.. من الغريب أن يتحدث أحدهم عن quot;مصالحquot; لقطر في سوريا، ومن الغريب أيضا أن يعتبر البعض أن هذه فرصة سارعت السعودية وقطر لاستغلالها!. فالسعودية وقطر لم تعبران عن موقفهما إلا في الأشهر الأخيرة من عام 2011، وقد انتظرتا أشهر قبل الحاجة للتعبير عن ردة فعلهما الطبيعية والمتوقعة، لكن آلة القتل الأسدية كانت مستمرة بعد انطلاقها من مارس ذلك العام.
إننا شعوب تسأل إسقاط الأسد لأسباب واضحة. أول هذه الأسباب واهمها هو إيقاف معاناة الشعب السوري. صحيح أن الأوضاع لن تصلح تلقائيا بعد الأسد. لكن إسقاط الأسد يقدّم quot;منحىquot; تغيير قوي للأحداث. هذا المنحى سيخلخل البُنية القائمة التي ساهمت في استدامة الوضع. إن منصب الرئيس quot;قويquot; في سوريا، ولذا ذهابه يعني ذهاب التركيبة القائمة أيضا من بقية المجرمين. لقد أصبحنا نحكي عن حال مصر أنه (حال بعد الثورة). الجميع شعر بعد ذهاب مبارك أن الثورة نجحت. ورغم أن المشاكل ظلت، والهياكل الغير سليمة بقيت قائمة، لكن مع ذلك كان هنالك شيء quot;رمزيquot; ومعبّر وقوي لدى الشعب المصري، يتمثل في قولهم أننا تجاوزنا الثورة وأصبحنا في مرحلة تحدي ما بعدها، وبذلك، التقط الاتجاه للتنظيف والإصلاح روحه الجديدة والمعبرة.
هذا يقودنا لسبب آخر، وهو أن كثرة التنظير عن مرحلة بعد الأسد هو تنظير لا ينفع الآن، لأنه يتحدث عن مرحلة أخرى لها ملابساتها التي تصلح للتأمل في وقتها. فمن المفترض أن تتحدث عن الأزمة الراهنة وكيفية إنهائها، ثم مرحلة ما بعد الأسد لها صعوباتها التي تُحل عبر سياقاتها. فمن الصعب أن تضع خطة محكمة وخط واضح ومحدد الآن، وتنتظر أن تدفعك للتحرك، فمرحلة بعد الأسد مرحلة مفتوحة على خيارات متعددة. لكن أسوأها حسب المتوقع لن يكون أشد من الذبح اليومي القائم كما نشاهده بأعداده اليوم.
أحاول دوما إيصال رسالة للأصدقاء السياسيين، حين مناقشتهم لقضايا الأمن والسياسة من منظور حل الأزمات quot;عبر مدى قصيرquot;، أن لا يتجاهلوا دور المجتمعات، وكيف أنها تمثل الحل الأكبر في الأزمات. لقد انهارت القاعدة وتعطلت مشاريعها في آخر السنوات قبل الربيع، وكل ذلك كان بسبب المجتمعات العربية التي لفظت هذا الفكر المتطرف. فبعد تفجير المجمعات في الرياض، والفنادق في عمّان، والمقاهي في مراكش، كانت المجتمعات العربية أول من حاصر ولفظ هذا التطرف. واليوم حين يأتي الغرب متخوفا من وصول quot;المتطرفينquot; للسلطة، نرى كيف أن الغرب لا يعبّر أبدا عن هذه المجتمعات وتفكيرها، وكأنها مجرد مجموعة قطعان غبية لا تعرف ما تختار. إن الوضع بعد إسقاط بشار، سيتضمن quot;انتخاباquot; تتواطأ كل الأطراف على أهميته، والانتخاب قد يجلب إسلاميين، وقد يجلب محافظين، لكنه بالتأكيد لن يجلب متطرفين!.
لقد كان الربيع العربي جالباً للمفاجآت المختلفة، ولم تكن كل الثورات مجرد احباط وانهيارات. بل الثورات العربية التي تمت، أعقبت نتائج إيجابية في المجمل، مع الحاجة لانتظار أكبر بخصوص الصعوبات التي تواجه ثورة مصر. إن المفاجآت التي حدثت تدلل على أنه من الصعب أن تتوقع المقبل، ولذا من غير المقبول أن تعطّل الواقع والتحرك فيه بناء على ما تتوقعه من القادم. بل إن تعطيل الحل وإماتته مساره هو الذي جعل قوى التطرف تكسب يوما بعد يوم في الحالة السورية!.
ورغم إعادة علاقاته مع الأسد والقذافي في السنوات الأخيرة، إلا أن الغرب سارع لمهاجمة القذافي لأن إسقاطه سيفتح لهم مجالهم الاستراتيجي في أفريقيا، فلا أحد quot;غربلquot; فرنسا في أفريقيا كما فعل القذافي. وهذا بُعد ليس موجوداً في حالة الأسد. بل الحرص الاسرائيلي على عدم ولادة دولة قوية (وسليمة) في الجوار، هو الذي يعزز استدامة هذا الموقف الغربي المتحفظ على عدم إيجاد تحرك ضد الأسد.
التعليقات