في أكثر من مكان، يبحر مركب الإسلاميين اليوم في سنته الأولى في السلطة، ويشكل السلفيون جزءً واسعاً من هذا المركب، ففي مصر مثلاً، ما يقارب من أربعين بالمائة ممن صوتوا للإسلاميين في الانتخابات البرلمانية المصرية كانوا قد صوتوا للسلفيين. ومن الطبيعي أن تتحقق هذه المكاسب السياسية، فالسلفية طوال العقود الماضية مثلت ثقافة إسلامية متمددة ومستقرة قدمت العديد من الخدمات لمجتمعاتها. بالإضافة إلى أن الكثير في المجتمعات العربية رأوا أن الإسلاميون ومنهم السلفيون قد قدموا الكثير من المعارضة والتضحيات أمام الاستبداد، لذا كان منتظراً أن يتفجر نوع من التعاطف الشعبي معهم.

لكن كثرة التأييد الشعبي واتساع الدعم، تبقى عاجزة أن تقدم أي خدمة سياسية لهذه الكيانات مستقبلاً، ففي النهاية سيكون الأداء وجودة التطبيق والفكر هو ما يحكم ذلك في المجال المدني والديمقراطي. وحين التقت السلفية المعروفة ببنيتها النمطية والمستقرة بظاهرة الربيع العربي، برزت بعض الملامح المهمة تبعاً لذلك.

أحد أبرز هذه الملامح كان انخراط السلفية مباشرة في السياسة من دون تقديم مراجعات تكشف وتوضح بشكل كاف أسرار هذه القفزة من مسار يتباعد عن السياسة ويتجنبها إلى كيان مبادر فيها!. فمن غير المعقول أن قيادي وداعية سلفي اعتبر الديمقراطية كفراً، وبعد فترة بسيطة يرشح نفسه في انتخابات مجلس الشعب المصري، هكذا!. ولا يعتد ببعض الأحاديث التي تصدر من حين لآخر بأن تباعدهم عن السياسة كان تباعدا عن الاستبداد الحاكم، فالسلفية تعاملت بمواجهة حين ارتضت دوافعها في بعض القضايا، ولو كان هناك وجود ودوافع لأدبيات وموازنة تنظيرية سياسية لكان أن عملت على بثها حتى حالة الاستبداد السابقة. إن حداثة العهد بالسياسة ليست مشكلة، بل المشكلة في عدم تقديم خلفية ودعم ثقافي مناسب للموقف الذي تم اتخاذه.

وملمح آخر يشوب الحالة السلفية تجاه الربيع العربي، هو ارتداد البعض إلى التفسير المؤامراتي لحراك الربيع العربي. ويعود ذلك إلى ضعف القدرة التحليلية للفكر السلفي تجاه ظاهرة الربيع العربي، وضعف بنية الأدوات والمفاهيم المدنية والمرتبطة بمواطنية الدولة الحديثة، وهذا ما جعل بعض منهم يزري بالمواطنة، وبعض آخر يعتبر أن مدنية الدولة تتصادم مع الدين الإسلامي، إلى غير ذلك من صدامات تتسع كل يوم!. إن من يعجز عن تفسير شيء ويستغربه، سيعتبر أنه مؤامرة ويرتاح. حين عجز المسلمون عن تفسير العالم الحديث في القرن الماضي، كانوا يرونه فقط على أنه مجرد مؤامرة كبرى، وكذا السلفيون اليوم أمام ظواهر تغير كبرى يتعلق بعضها بالتغير quot;السياسيquot; الذي طالما رأته quot;أيدلوجيتهم السلطانيةquot; المستقرة تاريخيا أنه بنية ثابتة، والمجال السياسي عند كثير من السلفية لم يخرج بعد عن ثنائية الطاعة أو الخروج، والآليات الحديثة كوسائل الضغط المدني غير معتبرة ولا مُدرجة.

وهذا التفسير للربيع العربي، كحالة مختلفة ومتجاوزة للوضع القائم وثقافته قد يدفع بالسلفية لأن تكون العصب الثقافي الذي تعتمد عليه quot;الثورة المضادةquot; للربيع العربي في المنطقة. إن السلفية لا تزال محظوظة بالحكومات والناس، وهذا ما يضعف من احتياجها إلى المراجعة والتغير.

ولكن في ذات الوقت، أنتج الالتقاء مع الربيع العربي حالة سلفية نشطة وطموحة، تجلّت في حزب quot;النورquot; في مصر الذي دفع الوجود الشبابي إلى الواجهة، وبدأ دورات التثقيف السياسي المدني، ورشح المرأة، وقدّم أعضاء مؤسسين من المسيحيين، وحاول أن يمارس استقلاليته وهو يقدم بعض المراجعات والخطى في المسار السياسي، مما أعقب مشاكل للحزب مع شيوخ وكيانات سلفية أخرى. وفي الخليج أيضاً، أنتج الربيع العربي تحركات شبابية بدت متحررة في طرحها من أطر التقليدية السلفية التي مثلت ثقافة مرجعية لمعظمهم، واهتم الشباب بمسائل الديمقراطية وسيادة الأمة والفكر الحقوقي وغيرها مما يعتبر حيوياً ومطلوباً اليوم. ولن يظل هؤلاء الشباب محسوبين على السلفية إن استمروا في نهجهم المغاير، بل ستكون لهم مسميات مختلفة ومسار مغاير يفكر وينتج من خارج البنية السلفية.

لكن المسارات الجديدة وهذه البوادر لا تمثل شيئا يذكر بجانب الفكر السلفي المهيمن والسائد، تبعاً لتجذر هذا الأخير وقوة انتشاره في مجتمعاته على مستوى مؤسسي و شعبي. ويبقى أن نسأل هل التطور المدني والثقافي سيقوم بتطوير البنية السلفية ويحررها من انغلاقها، أم سيتجاوزها ليمارس البناء في مسارات أخرى وتخسر السلفية بذلك فرصة المواكبة واستمرار التأثير؟.