خطوة الاتحاد الخليجي التي تثير نقاشاً واسعاً اليوم، هي خطوة تدفع لها المصاعب التي تواجه دول الخليج، أكثر منها خطوة مشاركة وتبادل للمزايا التي لديها. تظهر مثل هذه الخطوات التكاملية كلما عصفت أزمة بإحدى هذه الدول، ومثال ذلك ما حدث العام الماضي حين تم إرسال قوة درع الجزيرة إلى البحرين بعد انتفاضة شعبية هناك، وحين قدمت دول الخليج مساعدات لعمان بلغت عشرة مليارات دولار بعد سلسلة احتجاجات شهدتها السلطنة على مدى أشهر في العام 2011.
وبشكل عام، يعتبر سياق الاتحاد والتكامل مهماً ومناسباً لدول الخليج، خصوصاً أن هذه الخطوة تحارب وضعاً قاتماً من التهديدات والانقسامات وضعت تحته المنطقة، كالتنظير الغربي الواسع عن المنطقة بعد احتلال العراق، وأبعاد إقليمية أخرى، كدعوة أخيرة قدمها نائب الرئيس الإيراني رحيمي من أجل اتحاد بين العراق وإيران.
إن لدى دول مجلس التعاون الخليجي امتيازات عدّة، مثل الدخل العالي للفرد الذي يتجاوز في بعضها مثيله في دول غربية كبرى، وتوفير فرص رعاية متنوعة لمواطنيها، بالإضافة إلى خطط تنمية واسعة ومستمرة. لكن الامتيازات، على عكس ما يرى كثيرون، لا تلعب دوراً كبيراً في الدفع نحو الاندماج. فمشاكل دول الريع النفطي عادة ما تكون مشاكل إدارية لا اقتصادية، تعاني فيها من تضخم الأجهزة الإدارية ومن البيروقراطية، بالإضافة إلى نقص في الشفافية والمؤسسية في القرار. وشبه الاكتفاء الذاتي المتولد عن الطبيعة الاقتصادية بالإضافة إلى عدم الفاعلية الإدارية، هو ما رشّح أن تكون كل دولة مشغولة بطبيعتها ومسارها التنموي الخاص بها، وجعل مسألة التداخل تصبح حسّاسة. فعلى سبيل المثال، تحظى الكويت ببرلمان منتخب وطبيعة سياسية متقدمة، وهذا ما عبّر عنه رئيس مجلس الأمة الكويتي أحمد السعدون حين طالب بوجود انفتاح سياسي ومشاركة شعبية لدى الكل في صناعة القرار قبل خطوة الاتحاد.
إن ضعف الاحتياج الذاتي إلى التكامل هو ما يفسّر فشل خطوات تكامل خليجية لا يمكن تصنيفها في خانة الخطوات الصعبة والمعقدة، مثل توحيد العملة، والاتحاد الجمركي (كان من المفترض أن يدخل حيز التنفيذ في العام 2003). هذه خطوات فشلت على مدار سنوات، لكن الجديد اليوم، وما يؤجج بعض الحماس إلى مسألة الاتحاد، هو مستوى تحد غير مسبوق تمر به دول الخليج، وبالتحديد منذ انطلاق فترة الربيع العربي.
لقد أطلت ظلال الربيع العربي ورفعت من مستوى حساسية قضايا سابقة في الخليج، كحركة الإخوان المسلمين وإيران. كما لم يكن عام الربيع العربي هادئاً في دول الخليج، فعلى الرغم من الاستقرار السياسي الذي تتمتع به هذه الأنظمة، حتى مع عدم محاولتها القيام ببعض الإصلاحات على غرار الملكيات العربية الأخرى في الأردن والمغرب، إلا أنها شهدت جدلاً نشطاً في جسدها الاجتماعي والسياسي خلال هذا العام.
ففي عمان انطلقت مظاهرات احتجاجية تزامنت مع انطلاقة الربيع العربي في كانون الثاني/ يناير 2011، وهي مظاهرات تنقلت بين بضعة مدن واستمرت بتقطع على مدى أشهر، وكانت هادفة في المقام الأول إلى تحسين ظروف معيشية وخدمية، لكن لم تخل من وجه سياسي لها، ما دفع السلطان قابوس في آخر العام في تشرين الثاني/ أكتوبر، إلى تقديم عدة خطوات كتوفير حزمة فوائد خدمية تصل إلى ملياري دولار، وتوفير وظائف، بالإضافة إلى زيادة صلاحيات تشريعية ورقابية لمجلس عمان (البرلمان)، وعدد من التعديلات الدستورية. وفي الإمارات وقطر البلدين الأكثر هدوءً، كانت أهم المحطات بالنسبة لقطر هي الإعلان عن إجراء أول انتخابات تشريعية لدولة قطر، بانتخاب ثلثي مجلس الشورى في 2013، وهو تحرك سياسي تحاول فيه قطر أن تواكب صورتها كفاعل سياسي وتنموي ناجح. أما في الإمارات فقد رفع 133 ناشط وحقوقي إماراتي عريضة في آذار/ مارس 2011 يطالبون فيها بانتخاب كامل أعضاء المجلس الوطني الاتحادي (البرلمان) عبر الاقتراع المباشر، وتزويد المجلس بصلاحيات رقابية وتشريعية. إلا أن تصرف الحكومة الإماراتية هذا العام كان احترازياً، فاعتقلت مدوّنين، وسحبت الجنسية من بضعة ناشطين، بالإضافة إلى ممارسات تضييق على مؤسسات مدنية.
أما البحرين فقد كانت البلد الأكثر سخونة خليجياً، حيث شهدت البلاد انتفاضة شعبية قوية. وهي انتفاضة تأسست على مطالب قديمة تتجدد، تطالب بتفعيل ملكية دستورية وتطبيق ميثاق العمل الوطني الذي أٌقره العاهل البحريني في العام 2001. الأحداث تصاعدت في البحرين سريعاً، وأسفرت عن أحداث قمع ومواجهات سقط فيها ما يزيد عن 35 قتيلاً، بضعة منهم من رجال الأمن. ومرت البلاد بمحطات منها دخول قوات درع الجزيرة في آذار/ مارس 2011، المكونة من قوات سعودية وخليجية، لمساعدة الحكومة البحرينية على حفظ الاستقرار، بالإضافة إلى إعلان البلاد لحالة السلامة الوطنية (قانون الطوارئ) لمدة ثلاثة أشهر منذ منتصف نيسان/ أبريل 2011. ومع أن الأحداث أعقبت احتقاناً اسوأ في البلاد، إلا أنه يحسب للمعارضة ممثلة في quot;كتلة الوفاقquot; تجاوزها لاستقطاب قوى راديكالية للصراع، ويحسب للحكومة محاولتها التجاوب السريع مع الاحتجاجات، ومن ذلك رضاها بلجنة تحقيق مستقلة، وقبولها بنتائج التحقيق الذي أدان السلطة في مسائل قمع وتعذيب.
بالنسبة للكويت، ذات الديمقراطية المتمرحلة والبلد الأنشط سياسيا على مستوى الخليج، فقد كانت أهم المحطات فيها هي مظاهرات غير مسبوقة للبدون، بجانب سلسلة اضرابات لموظفين في قطاعات متنوعة منذ أيلول/ سبتمبر الماضي، وصولاً إلى نشاط واسع للمعارضة قاد إلى استقالة الحكومة في آخر العام الماضي. ولايزال المشهد في الكويت مفتوحاً ومستمراً، بالنسبة للإضرابات، والبدون، والتجاذبات الحالية بين النظام والبرلمان الجديد الذي حازت المعارضة على أغلبية فيه.
وفي السعودية، أمر العاهل السعودي الملك عبدالله بن عبدالعزيز في آذار/ مارس 2011، بحزمة مزايا تتضمن مزايا متنوعة للمواطنين كدعم القروض والإسكان، وتوفير الوظائف، وتقديم إعانات بطالة، ودعم الضمان الاجتماعي وغيرها. لكن مع ذلك السعودية بدورها مر عليها نوعين من الاحتجاجات، أولها تجمعات محدودة لأهالي معتقلين بعضهم قد سجن لسنوات من دون محاكمة، والأخرى كانت احتجاجات في منطقة القطيف، تقطعت على مدى أشهر. وقد عادت الأجواء حالياً إلى الهدوء بعد أن اشتدت حدة الموقف حين سقط أربعة قتلى في العوامية في القطيف في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، فيما أتهمتهم الداخلية السعودية بإطلاق نار على رجال الأمن، وأعلنت عن أسماء وصور مثيري شغب، بالإضافة إلى تحذيرها من أصابع أجنبية تحرّض في البلد، في إشارة إلى دور إيراني في هذه الاحتجاجات. وشهدت السعودية أيضاً بادرة احتجاجية جديدة قادتها نساء للمطالبة بقيادة النساء للسيارة، بالإضافة إلى احتجاج طلابي في جامعة الملك خالد في أبها خلال العام الجاري. ويضاف إلى ذلك سلسلة بيانات إصلاحية أصدرها ناشطون تزامناً مع التغير الحاصل في البلدان العربية، كرسالة quot;شباب 23 فبراير إلى الملكquot; ثم الخطاب الأشهر quot;بيان دولة الحقوق والمؤسساتquot; وخطاب quot;مطالب الشباب من أجل مستقبل الوطنquot; وغيرها. وقد تنوعت مطالب هذه البيانات التي كان من ضمنها: المطالبة بملكية دستورية، وتوفير صلاحيات تشريعية ورقابية لمجلس شورى منتخب، وتعزيز دور القانون والمؤسسات في البلد. وقد استمر المشهد الاجتماعي السعودي محتدماً فكرياً بين تيارات محافظة وأخرى متحررة تطالب بالتغيير. والسياسي بدوره تمثلت خطواته العام الماضي في السماح للمرأة بالمشاركة في مجلس الشورى والمجالس البلدية، وإنشاء لجنة مكافحة الفساد.
هذه الأحداث الراهنة التي تمر بها وبغيرها دول الخليج، لا تعني صعوبة مسألة الاتحاد، بل ربما لعبت دوراً في دعمه. كما أن دول الخليج قادرة على اتخاذ خطوة في أي اتجاه وستكون خطوة فاعلة في نفس الوقت، لأنها تملك اقتصاداً سياسياً قوياً. وما تؤكده بوضوح مثل هذه الأحداث، هو أن التحركات القوية التي تقدر عليها دول الخليج، من الضروري أن تدرج معها خطوات إلى الإصلاح والحرية وتوسيع المشاركة الشعبية.. فإنسان هذه المنطقة قد تغير، وكذا الخطوات من أجله، لابد أن تفعل.