نصف عام مضى، فاز الإسلاميون فيه بكل الانتخابات العربية التي تمت، من المغرب حتى الكويت، مروراً بالانتخابات المهمة في مصر وتونس كونها تمت في مشهد سياسي جديد. وهذا الفوز يبقى منتظرا ومتوقعاً في بلدان عربية أخرى. ويبقى السؤال، هل ستدخل الحركات الإسلامية إلى الساحة السياسية عبر ذات المنطق الذي ولدت من خلاله؟.. أي منطق الصراع تحت طائلة الخوف والمجابهة.
في فترة ما قبل منتصف القرن العشرين، ومنذ رحيل آخر الآباء الإصلاحيين النهضويين، الشيخ رشيد رضا، بدأت القوى والحركات الإسلامية السياسية في التواجد والانتشار على الأرض. لقد كان الفكر الإسلامي للآباء الاصلاحيين والمجددين مركزا على المنهج الإحيائي الإصلاحي. وفكر القوى الإسلامية بدوره كان خليطا من هذا العامل وعوامل أخرى، كان من بينها التأسس على فكرة أن الوطن والأمة في خطر وأن الإسلام في معركة وجود. بمرور الوقت أًصبح هذا العامل الصراعي طاغيا ومركزيا في فكرها، فالظروف التي تمرحلت من خلالها هذه الجماعات لعبت دورا في تعزيزه.
فالدولة العربية الحديثة التي اختطفت دور المسجد التقليدي كمركز للمدينة، وازاحت مؤسسات الوقف الإسلامي، لم تقم بخلق فضاء مدني حديث في المقابل، بل ملأته فقط بهيمنة مفرطة لأجهزتها. ورغم تبني الدولة لمسألة الرعاية الدينية، ومحاولتها لأن تكون مصدرا لها، بجانب تدجين بعض رجال الدين، إلا أن القطاع الأكبر من رجال الدين ومن الشباب الإسلاميين الجدد ذوي الثقافة الجامعية الحديثة كانوا متجاوزين للأطر التي صنعتها الدولة. ومع قمع الدولة وتضييقها على قيادات العمل الحركي الإسلامي، إلا أن خطاب هذه الحركات ظل يتمدد في الجسد الشعبي بشكل أفقي لا ينافسه فيه أحد. ومنذ بداية الثمانينات أصبحت الظاهرة الكشكوية في الخطابة (نسبة إلى الشيخ عبدالحميد كشك) سائدة ومنتشرة من المغرب حتى الخليج. هذا الأنموذج الخطابي تضمن خطبة جديدة، بنفس حدّي ومجابه، تتصدى لكل القضايا التي تخص المسلمين، ومثلت بدورها رافداً مهماً للحركات الإسلامية. والحركات ارتدت بدورها على الفكر، ففي حالات واسعة، بقي الاجتهاد والتطوّر النظري للفكر مرتبطا ومقيّداً بضرورات واحتياجات الحركات الإسلامية.
وفي الجوهر، تمثل الانتصارات المتتابعة للإسلاميين اليوم، انتقالاً لهم من موقع إلى آخر. هذا الانتقال ليس له أن يترافق مع ذات خطابهم المعتاد. الخطاب الذي كان ردة فعل على الاستبعاد، ممن ليس لديه موقع فعل، وكان في أحوال كثيرة خطابا يحاكي عواطف الجماهير ويهدف للتحشيد والسجال، ولم يكن الآخر فيه سوى: جاهل أو مستكبر أو ظالم أو ضال.. الخ. لقد اختلفت الحالة اليوم، وتغير موضع الإسلاميين، وأصبح الناقد منقودا، يترصد الجميع خطواته!. لقد كان من المتوقع انتصار هذه الحركات، فالجسد الشعبي العام كان يقف خلفها، لكن يبقى السؤال معلقاً حول طبيعة وتمرحل هذه الحركات نفسها. فهي اليوم تدخل عملية مدنية معقدة، ولم يشهد مرورها بمرحلة مراجعات مدنية، تؤسس بوضوح لفكر يتجانس مع دولة الديمقراطية والمواطنة. هذه المراجعات المطلوبة لم توجد إلا على نطاق محدود، كأفكار الشيخ راشد الغنوشي الذي أُثّر في فكر حركة النهضة، وصنع منها فاعلا سياسيا يؤمن بالمشاركة ويثق بالمدنية. بينما الطيف الواسع من الحركات الإسلامية تحول كل منها إلى quot;قبيلة سياسيةquot;، تلفظ مفكريها الناقدين وأصحاب المراجعات.
إن الفوز بالسلطة قد يمثل استفرادا بها. فعبر الوقت تتم مصادرة المساحة، واستغلال التحول، واستعمال قائمة طويلة من قوى غير مرئية تعزز من حظوظ السلطة الجديدة. خصوصا في وضع آلية مدنية وقانونية غير موثوقة تماما، كما هو الحال في الديمقراطيات العربية الوليدة. ومبدأ الصراع والمساجلة والإقصاء يختلف عن مبدأ المشاركة. ومن يعترف بهذا المبدأ الأخير، هو من يعرف جيداً صعوبة أن يقوم وحيداً بأعباء مجتمع معقد. ليس للحركات الإسلامية أن تستمر بذات المبدأ الذي انطلقت من خلاله؛ صراعٌ تحت طائلة الخطر والافناء. فكما يقول الراحل خلدون النقيب في كتابه quot;في البدء كان الصراعquot;: ليست كل أنواع الصراع صراعات إبادة، حيث إن ما يكسبه خصم، هو بالضبط ما خسره الخصم الآخر.