الإصلاحيون والقاعدة بينهما زواج لم يتم. زواج لم يحضر له الشهود، ولا الأزواج، بل المأذون فقط. هذا المأذون قد يكون صحفياً أو مثقفا أو رجل دين أو مسؤولاً عربياً أو كل أحد ممن يودّون ابقاء الحالة الماثلة، ولا يقرّوا أبدا بوجود مبادرات إصلاحية وحقوقية في عالمنا!. فمعاداة الوضع القائم (Status Quo) في ذهن هؤلاء، تعني خروجا غير شرعي عن النسق التقليدي والسائد، لذا قد يتماثل في أذهانهم عضو في تنظيم القاعدة المتطرف مع شاب مثقف يهدف للنقد والاهتمام بالشأن العام في بلاده!.
لقد مثّل الاحتجاج الشبابي والشعبي الجديد ظاهرة مهمة في عالمنا العربي، اعترفت بفاعليتها كل زوايا الشرق والغرب. وكل صاحب ايدلوجيا أراد أن يلتصق بها، بدءاً من الليبراليون الجدد وأحبابهم من محافظي الغرب الذين أشاروا إلى تأثير برنامج جورج بوش لترويج الديمقراطية، إلى الرئيس الإيراني الذي أعلن أن الربيع العربي يمثل امتدادا للثورة الخمينية. وليس بمستغرب أن نجد القاعدة، التي تراجعت كثيرا في السنوات الأخيرة، تحاول الالتصاق بالربيع العربي، والمشهد الاحتجاجي والإصلاحي الذي يمثل مناخاً سائدا اليوم.
آخر هذه المحاولات كانت في الشهر الماضي، حين دعا زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري الشعب الباكستاني إلى التظاهر ضد الحكومة والجيش على غرار الشعبين التونسي والمصري، وقبل ذلك كان له في فترة الربيع العربي تصريحات مماثلة حول الجزائر وسوريا وأفغانستان وغيرها. بينما القاعدة تاريخيا لم تكن كذلك. فبشكل عام، من كان يعمل على التغيير بطريقة سلمية كان يتعرض للازدراء واللوم من قبل خطاب القاعدة، الذي كان يصفهم بأنهم أرانب وأغنام تنتظر الذئب أن يكف عن جرائمه!. ورغم أن الظواهري دعا المصريين إلى التظاهر في 2010 لفك حصار غزة، إلا أن طبيعة هذا التظاهر لديه تختلف عن طبيعة التظاهرة المدنية التي أنجزها أبناء مصر. فالظواهري في كتابه quot;فرسان تحت راية النبيquot; الذي صدرت نسخته المنقحة في نفس ذلك العام (2010)، انتقد كلاما للقيادي السابق في حركة الإخوان عبدالمنعم أبو الفتوح، وصرح أنه من غير المقبول أن يتحدث عن احترام الحكومة التي تأتي من التصويت، حتى لو أتت عن طريق انتخاب عادل!. وقبل ذلك كان قد دعا حماس إلى نبذ الانتخابات. فالظواهري لا يقبل الانتخابات إلا في حالات محددة تنطبق فيها مسبقاً شروط الحاكمية والخلافة التي يريدونها. وأيضاً أسامة بن لادن ذكر في حديث له في كانون الثاني/ يناير 2009 أن التظاهر دون سلاح عديم القيمة.
ولا يخفى أيضاً مقدار التراجع الذي حدث للقاعدة في سنواتها الأخيرة. يدلل على ذلك اختفاء القيادات التي لم يبق منها سوى اسمين، الظواهري وأبو يحيى الليبي. والتنظيم يعاني في مسألة تجنيده وحصوله على الشباب الجدد، ففي الوقت الذي يزعم فيه التنظيم أن الجهاد واجب على الجميع، من يرفضون تطبيق وممارسة ما يدعو إليه هذا التنظيم هم أكثر من 99% من عدد المسلمين، بل كما تشير الدراسات الموثقة، فإن من قبلوا الانخراط في صفوف القاعدة منذ تفجيرات سبتمبر 2001 هم فقط أقل من واحد لكل 15000 مسلم. كما أن نسبة التأييد المعنوي لأعمال القاعدة ضعيفة شعبياً، حيث يقف ضدها أكثر 90% من الشعوب المسلمة، وذلك بحسب استطلاعات منظمة quot;جالوبquot; في أكثر من 35 بلد مسلم، بين الأعوام 2001 و 2007 (يعني تمسك بالرفض حتى في فترات اعتداء سافرة على بلدان مسلمة). وفي السنوات اللاحقة ازدادت أيضاً نسبة الرفض هذه.
ولا يخفى أن الأساس الأهم لتهميش القاعدة وفكرها يتمثل في أولئك الإسلاميين الذين اختاروا التصويت، والانخراط في العملية السياسية من بوابة مدنية. فبذلك، لم يعد من مبرر للكثيرين من ذوي المزاج المتشدد أن يذهبوا إلى مناطق استقطاب متطرفة مثل فكر القاعدة. والتغير لدى قوى إسلامية متشددة كان سابقاً حتى على الربيع العربي، فالجماعة الليبية المقاتلة أعلنت تخليها عن السلاح في 2009، وسبقتها في ذلك quot;جماعة الجهادquot; و quot;الجماعة الإسلاميةquot; في مصر، والربيع العربي اليوم هو داعم كبير لحضور هذا المسار، فهو يعيد تشكيل المشهد السياسي، ويفتح مجالاً أكبر.
ومن الطبيعي تبعا لهذا الضعف والتراجع أن تحاول القاعدة أن تلتصق بالمشهد الشبابي والاحتجاجي النشط في البلدان العربية، مثلما فعل غيرها. لكنه ربط ظالم، سواء زعمته القاعدة أم غيرها. فالربيع العربي، كما عبرت إحدى العناوين الصحفية، لم يكن سوى quot;شتاءquot; القاعدة. والربيع العربي بجانب أنه فاجأ القاعدة، فهو أيضاً حطّم quot;فرضيتهاquot; الأساس التي حاربت من أجلها لعقود، وهي القول ببطلان القدرة على التغيير من دون عنف!. ولو كان الإصلاحيون الذين ارتفع صوتهم في الدول العربية يمثلون تقاطعا مع أو دعما للقاعدة، لما ضعفت القاعدة ولما خبى نجمها في ذات الوقت.
لقد ازدهرت المبادئ والمنطلقات الإصلاحية مع فترة الربيع العربي، وكانت سبباً لهذا الربيع ونتيجة له أيضاً. وثقافة الإصلاح والتغيير والنقد هي نبت طبيعي وفكر أًصيل لأي بلد ومجتمع، وأرقام الفساد وسوء التنمية والإدارة هي الفيصل أمام من لا يرى حاجة للنقد. ولو لم يكن هناك فساد لما اصدرت أعلى سلطة في البلد، ممثلة في الملك عبدالله بن عبدالعزيز، قرار إنشاء هيئة مكافحة الفساد في العام الماضي!.
للبعض أن يحارب الصوت الناقد والإصلاحي، وله أن يختلف معه ومع طرحه، وله أن يكون مليكاً أكثر من الملك.. لكن ليس له أن يمارس التجييش والتحريض بطريقة لا أخلاقية ولا إنسانية، وأن يساوي بكل سطحية وبطرق مباشرة وغير مباشرة بين الثقافة الحقوقية والناقدة، وبين الفكر المتطرف والمعتدي. فلا يمكن أن يتساوى، ما نود أن نراه، وما لا نود أن نراه في بلداننا.