يتردد دائما سؤال النهضة والحداثة: لماذا نجحت في أوربا ولم تنجح في العالم العربي والإسلامي؟!،
هذا السؤال هو رد فعل لصدمة الحداثة التي واجهها العرب بعد دخول نابليون مصر في نهاية القرن التاسع عشر؟
ولكن ما هي النهضة؟ النهضة Renaissance تعني النهوض والانبعاث والاستيقاظ من السبات وترتبط اساسا بعصر النهضة في واربا وانبعاثها من سبات القرون الوسطى في القرنين 15 و16 عشر أي بعد تفكك علاقات الإنتاج الاقطاعية التي مهدت لقيام عصر التنوير والحداثة في واربا. والتي قامت أولا في إيطاليا حيث تطورت بدايات النظام الرأسمالي. ما بالنسبة للنهضة في العالم العربي الاسلامي فهناك مشروعان للنهضة: الأول في العصر الوسيط والثاني في العصر الحديث.
مشروع النهضة في العصر الوسيط
قامت النهضة في بغداد في العصر العباسي من القرن الثالث وحتى السابع الهجري (بين التاسع والثالث عشر الميلادي) بعد تطور أسس الدولة الإسلامية وامتدادها الى شرق البحر الابيض المتوسط وشمال افريقيا واواسط اسيا وما تبع ذلك من نمو اقتصادي وتطور وتطور التجارة البحرية (رحلات السندباد البحري وألف ليلة وليلة) واندفاع التجار العرب الى توسيع رقعة نشاطهم التجاري، مما ادى الى سيطرتهم على موانئ البحر العربي والبحر الابيض المتوسط وفرض الاسطول العربي - الاسلامي سيطرته خلال القرن الثامن الميلادي، على اغلب موانئه، من دون منازع، حيث وصل العرب الى مشارف الجنوب الفرنسي وتوغلوا في مقاطعات بروفانس، واقاموا علاقات تجارية وثقافية جيدة معهم. كما عقدت معاهدات تجارية مع امراء سالرن ومالفي وحصل تجار بيزا وفلورنسا على امتيازات خاصة شجعت على توسيع العلاقات التجارية بينهما. كما توسعت شبكة الطرق التجارية البرية وبخاصة طريق الحرير وطريق التوابل اللذان ربطا الشرق بالغرب.
وقد رافق التطور الاقتصادي نهضة فكرية وعلمية وثقافية وتنوير شامل ظهرت في الفكر الاجتماعي والفلسفي، حيث تطور علم الكلام الذي ارتبط بالمجتمع واستمد منه أفكاره وكون حركة عقلانية نقدية ذات نزعة إنسانية تنويرية كما عند الجاحظ والفارابي وابن سينا وابن باجة والتوحيدي وابن مسكوية وابن رشد، مثلما تطور علم الفلك والطب والفلاحة والبصريات على المستوى العلمي والتجريبي.
وكان لتطور حركة التأليف والترجمة والنشر دور كبير في ترجمة ونشر امهات الكتب العلمية والفلسفية والطبية من اللغات اليونانية والسريانية والفارسية الى اللغة العربية، وخاصة بعد تأسيس دار الحكمة ببغداد.
وخلال تلك الفترة تطورت في هذه البيئة الثقافية المتحركة ثلاثة تيارات فكرية مركزية هي: -
اولا ـ التيار التقليدي الذي يقول بألوية النقل على العقل ويعتمد علم الحديث والسنة وعلم القران ويخضع للموقف التقليدي الذي يكون العقل بالنسبة له أداة طيعة في خدمة النص.
ثانيا ـ التيار العقلاني الذي يقول بأولوية العقل من دون ان ينفي النقل. وهو التيار العقلاني التنويري الذي اعطى للعقل مكانة خاصة في الفكر الإسلامي، خصوصا عندما دخل في مواجهة مباشرة مع العقل الفلسفي والعلمي الاغريقي، (عن طريق الترجمة) الذي تجسد في فكر المعتزلة التنويري المستقل الذي أسس البدايات الاولى لنشوء الفلسفة الاسلامية.
وثالثاـ التيار الصوفي الذي يقوم على التجربة الروحية والاستبطان الداخلي والتأويل الرمزي للنصوص وجاء كرد فعل روحي وتمرد اجتماعي سلبي على الاوضاع الاجتماعية والسياسية السيئة ومحاولة لتحدي السلطات الاستبدادية. غير ان هذا التيار تحول الى مجرد طقوس جامدة ممزوجة بكثير من البدع والشعوذة والخرافات، خصوصا بعد ان أصبح خادما للسلطة ومن ثم الاستعمار.
من هم المعتزلة
سوف نتحدث بإيجاز شديد عن أهم التيارات الفكرية وهو تيار المعتزلة.
والمعتزلة حركة فكرية وفلسفية عقلانية تناولت مسائل دينية مهمة كالنبوة والايمان والأخلاق.
والاعتزال يعني الخروج من الجماعة او التنحي عنها والابتعاد منها درء للوقوع في الخطأ.
وهناك أسباب دينية وسياسية للاعتزال أهمها اعتزال واصل بن عطاء عن مجلس الحسن البصري بسبب الاختلاف حول مرتكب الكبائر وهل هو كافر ام بين بين؟ (الكبائر الكبيرة كالكفر والقتل والسرقة. والصغائر كالخطأ والكذب والنسيان)
ومن أهم أفكار المعتزلة:
1-انهم طرحوا فكرة نزول القران وتفسيره على أسس عقلانية. وكان المعتزلة اول من قال (بخل القران) أي ان الله خلق القران وانزله على النبي محمد بلسان عربي مبين، في حين يرى الاخرون ان القران أزلي اي كان موجودا منذ الأزل مع وجود الله.
2- اعتمدوا على العقل فلم يعد النقل محور المعرفة، فالعقل هو الحكم في الأمور حيث اخذ المرء يخضع الوجود كله لمقاييس العقل واحكامه.
3- ارتبط التوكيد على العقل عندهم بالتوكيد على الحرية، فلا عقل دون حرية ولا حرية دون عقل.
4- آمنوا بالإرادة الحرة للإنسان ومسؤوليته عن اعماله ووضعوا فلسفة عقلانية متفائلة تركز على أهمية الانسان
5- فصل المعتزلة بين الدين والسياسة، بالرغم من انهم رأوا بانه لا يوجد بين العقل والدين تناقض.
غير انه حالما وصل المعتزلة الى السلطة، كما حدث في زمن المأمون، تنكرت لمبادئها وافكارها الثورية، واخذت تقمع بدورها خصومها عن طريق مسائلة العامة بالأمور العقلية. وهكذا بدأت محنة احمد ابن حنبل التي راح ضحيتها المئات من الناس.
اما اخوان الصفاء وخلان الوفاء فهم حركة فلسفية تنويرية سبقت فكر المعتزلة او رافقته. نشأت في البصرة وتأثرت بالفلسفات اليونانية والهندية والفارسية واهتمت بتطور العلوم والرياضيات والفلك والسياسة والتربية والمجتمع في محاولة للتوفيق بين العقيدة والفلسفة وأصدروا 52 رسالة فلسفية سميت برسائل اخوان الصفاء وخلان الوفاء وهي بمثابة موسوعة فلسفية تنويرية.
أسباب وعوامل فشل النهضة
يرى كثير من المفكرين ان اهم أسباب فشل النهضة ونكوصها عما وعدت به ما يلي: -
أولا-تفكك الدولة العربية الإسلامية بعد ان ضعفت وترامت رقعتها وتحولت الى دويلات طوائف ضعيفة وهو ما ساعد على سيطرة السلاجقة على الحكم وأفول النزعة الانسانية والعقلانية، حيث كان السلاجقة قبائل رعوية متخلفة. ويخبرنا الطبري حول الطابع البدوي الرعوي لجيوش السلاجقة الترك فيقول: quot;انهم حفاة يركنون الدواب ويتراكضون في طرق بغداد وشوارعها فيصدون الناس ويطأون الصبيان بدوابهمquot;
وكان المعتصم قد استعان بالأتراك ليكونوا آلة حرب بيد الخلافة وفوض السلاجقة بإدارة الدولة واقتطهم اقطاعيات كبيرة الى جانب مهامهم العسكرية. وبالتدريج نمت طبقة عسكرية بيروقراطية سيطرت على جميع مفاصل الدولة. وسرعان ما تآمروا على المعتصم فقتلوه وسيطروا على الخلافة وتركوها اسما بدون مسمى.
كما ان اضطهاد المتوكل والواثق للمعتزلة واحراق كتبهم بعد المحنة كان قد قضى على التعددية الفكرية والعقائدية مما سهل انتشار التعليم التقليدي الذي عطل الفكر وأفقده حيويته
وشجع على نشر الطرق الصوفية التي وقفت ضد الفكر الفلسفي العقلاني النقدي
ثانيا-لم تحظ بدعم من طبقة اجتماعية وسطى متفتحة كطبقة البرجوازية في واربا
ثالثا-اقفال باب الاجتهاد لدى فقهاء السنة بعد هجوم الغزالي على الفلسفة والعقل (كتابه تهافت الفلاسفة الذي أنتج ظاهرة محمد عبد الوهاب 1703-1791 ومن ثم الاخوان المسلمين والحركات السلفية).
رابعا-اعادة الاعتبار الى المنطق الارسطي الذي يرى بان العقل قاصر على الاستقلال الفكري ولا بد له ان يكون خادما للنص الديني الذي لا يقبل النقاش والنقد، لأنه يمثل الوحي.ومذاك انتشرت مقولة السيوطي: من تمنطق فقد تزندق! وهو ما أدى الى تكفير كل من يشتغل بالفكر والفلسفة وظهور وعاظ السلاطين بدل الفقهاء المنورين.
ان سقوط بغداد على يد التتر عام 1258كانت الضرة القاصمة للنهضة ودخول العالم العربي والاسلامي عصر الظلام الذي لم يفق منه الا على مدافع نابليون وهي تدق شواطئ مصر، التي صدمت العرب والمسلمين وأيقظتهم من سباتهم الطويل.
التعليقات