يتضمن مفهوم مصطلح quot;ثورةquot; ضمن محموله معان الانطلاق إلى آفاق رحبة من بعد كمون وجمود أو استبداد وقهر، وهذا لكي يتحقق بالفعل يلزم توافر عوامل بخلاف القدرة على هدم القديم المرفوض والفكاك من إساره، وبعض هذه العوامل ترجع للمحتوى الفكري المصاحب للثورة ذاتها، والبعض الآخر للظروف والملابسات المحلية والعالمية التي تؤثر على مسيرة هذه الثورة بعد خطواتها الأولى.
بدأت ثورة 25 يناير بشعار أساسي رددته الجماهير وهو quot;عيش. حرية. كرامة إنسانيةquot; وبعد فترة حشر دراويش اليسار مطلب quot;عدالة اجتماعيةquot; في الشعار، وكثيراً ما يستبدلون به مطلب quot;كرامة إنسانيةquot; ليظل الشعار ثلاثي التكوين، فعلوا هذا رغم أن المطالب المادية للفقراء ممثلة منذ البداية وفي صدر الشعار بـمطلب quot;عيشquot;، والذي يشمل بالتأكيد سائر مناحي الحياة الإنسانية الكريمة، والمشكلة هنا في محتوى مصطلح quot;عدالة اجتماعيةquot; عند من يصرون عليه، أي في طبيعة العدالة التي ينشدونها، والتي اختبرناها في المرحلة الناصرية، وكانت تعني توزيع الفقر بالتساوي بين الجميع، وهذا ما يفتضح جلياً في خطابهم الذي يرفع شعار quot;الانحياز للفقراءquot;، والذي يعني ضمناً معاداة الضد الذي هو الأغنياء، هؤلاء الأغنياء الذي يطلقون عليهم في الغرب money makers، وهم من في سعيهم لصناعة المال يوظفون الآلاف والملايين، بدلاً من تحويلهم quot;لتنابلة سلطانquot; في دواوين الحكومة والقطاع العام الفاشل دون عمل حقيقي، ودون أجر حقيقي أيضاً يوفر لهم حياة تليق بالإنسان. . المشكلة أن هؤلاء يعتبرون أنفسهم ثواراً في مواجهة رموز الردة الحضارية، رغم أنهم من ذات الفصيل المرتد عن العصر، والمنفضل عن العالم وحقائقه ونوعية علاقاته الاقتصادية والسياسية وبالتالي الاجتماعية والثقافية.
أما عن مطلب quot;حريةquot; فالشكوك تحيط بالمقصود به، والذي يختلف يقيناً من فئة لأخرى، فقد نفهم أن الشباب موقد شرارة الثورة يقصد بالفعل quot;الحريةquot; بمعناها العالمي المتعارف عليه، والذي يطلق حرية الإبداع والانطلاق الإنساني بكل معانيه ومناحيه، لكننا لا نتصور فهم المتأسلمين للكلمة إلا بمعنى حريتهم في الانقضاض على السلطة وعلى حرية الناس معاً، ليتيسر لهم صبهم في القالب المقدس الذي يعلنون عنه، وهو المحتوى الذي يحتاج لمصطلح آخر مفارق تماماً أو مضاد لمصطلح quot;الحريةquot;، أما عامة الشعب الذين أيدوا أو عارضوا الثورة فلا نظن أن مطلب quot;حريةquot; يعني لهم شيئاً، وقد لا يكون مختزناً في ثقافتهم له غير معان الانحلال الأخلاقي، ولعل أطرف ما قد يسمعه المتحدث عن الحرية لواحد من العامة هو سؤاله له إن كان quot;يريد أن تمشي النساء عرايا في الشوارعquot;!!. . هكذا يمكن أن القول أن ما تشهد الساحة الآن من صراعات وفوضى وفشل ذريع إنما يتجسد في اختلاف الرؤى لشعار الثورة الأساسي، أي في محتوى الثورة ذاتها.
لكن لعل أخطر ما شاب ثورة الشباب - إن صحت هذه التسمية ولم تكن الثورة هي ثورة quot;أهل الكهفquot; الذين اقتنصوا بالفعل ثمارها- هو اختلاف وعدم وضوح رؤية الثوار لأنفسهم ولبلادهم في المحيط العالمي، في حين أن القطاعات اليسارية والعروبية بينهم ظلت متمسكة برؤاها العتيقة المعادية لكل آخر، وبل وأسيرة تصور أن الحرية وquot;الاستقلالquot; المنشود يعني أن تستطيع مصر فك ارتباطاتها وعلاقاتها مع القوى العالمية الكبرى، لتأخذ منها على الأقل موقف المكشر عن أنيابه، إن لم تستطع أن تجاهر بالعداء الصريح لها، وربما تفعل كما في فيلم quot;ظاظاquot; بطولة الفنان quot;هاني رمزيquot;، حين ذهب الرئيس المنتخب باكتساح شعبي إلى دولة (الاتحاد السوفيتي المنحل على ما يبدو) تبيعه قنابل نووية يواجه بها من يحاولون فرض سيطرتهم على مصر، رغم أن دعايته الانتخابية التي التفت حوله الجماهير على أساسها كانت تحسين أحوال الناس المتدهورة، وليس تغيير اسم quot;وزارة الدفاعquot; إلى quot;وزارة الدفاع والهجومquot; كما جاء بالفيلم، وتحويل مصر إلى ألمانيا الهتلرية التي تحارب العالم كله، ولدينا في الحقيقة بالفعل مرشح شهير للرئاسة لا يختلف عن quot;ظاظاquot; في quot;عبطهquot; وشعاراته وتصريحاته ونواياه، وقد لا يختلف إلا قليلاً في شعبيته بين من تم حقنهم لعقود بهلاوس العروبة والناصرية، وإن كنا لا نتمنى له ولنا ذات نهاية الفيلم المأساوية، وquot;يزداد الطين بلةquot; كما يقولون بهؤلاء الذين يحلمون بأستاذية العالم، والتي لن تتحقق بغير حروب مقدسة يسيطرون فيها على العالم كله، يحلمون بهذا وكل مقوماتهم لتحقيق الحلم هي السيوف والخناجر وأصابع الديناميت التي أتقنوا حرفة حزمها وربطها بأجهزة التفجير!!
مع ذلك فإن العداء لمفاهيم العصر وقيمه ونوعية علاقاته لا تقل في الخطر على أي وطن من معاداة الدول والشعوب ذاتها، والحقيقة أن أغلب ألوان الطيف السياسي للمتصدرين للحديث باسم الثورة المصرية هم أسرى لمفاهيم عتيقة سياسياً واقتصادياً، هذا العداء أو الجهل بمفاهيم العصر يتسبب في الفشل الذريع عند نقطة البداية الحقيقية لمسيرة الثورة، والتي هي ترتيب البيت المصري من الداخل، فترتيب أي بيت أو وطن في عصرنا لم يعد خياراً حراً لأصحاب هذا الوطن، فعليك إذا أردت أن تبني وطناً قادراً وصالحاً للحياة أن تبنيه وفق المواصفات العالمية، لا أن تصنع وطناً كما لو quot;طربوشquot; لا يقبل أحد الآن أن يعتمره!!
ثورة الاتصالات تكاد أن تلغي عنصر الجغرافيا من حسابات العلاقات والتأثيرات المتبادلة بين الشعوب، وتحت طرقات تحقيق المصالح عبر العلاقات الاقتصادية المتشابكة تتهاوى الحدود الفاصلة بين الدول الوطنية والقومية، كما تتلاشى مفاهيم السيادة التقليدية للدول داخلياً في علاقاتها بشعبها، أو خارجياً في علاقاتها مع الكيانات الأخرى، سواء كانت دولاً أو منظمات عالمية، حيث يترابط الجميع الآن بشبكة من العلاقات المتداخلة والمعقدة، ليسير الجميع معاً كما لو قطار مرتبطة عرباته ببعضها البعض، وإن كان الأمر في الحقيقة أكثر تعقداً من هذا التشبية، الذي يبدو وكأنه يربط بين أجزاء منفصلة ومستقلة، وهذا بالطبع في عالمنا الآن غير دقيق أو حقيقي. . يحدث هذا للشعوب التي نجحت في تأسيس أبنية وطنية سليمة ومقتدرة، تكفل لها التفاعل البناء والخلاق مع سائر القوى والكيانات العالمية، أما الشعوب التي فشلت في إدارة حياتها وفي إقامة مؤسسات حديثة، فإن العولمة تأتي لها بالتحلل والضياع، كما أن الذهاب بها بحالتها هذه إلى أي نوع من التكتلات يعد نوعاً من الانتحار.
هكذا يكون من حق أصحاب ما يسمونه quot;الخلافة الإسلاميةquot; ألا يعترفوا بوطن، وأن يروا أنفسهم داخل دائرة انتماء أوسع أو أضيق، لكن الخطأ أو الجريمة هي أن يتولوا وظيفة رعاية وإدارة وطن يحتاج لمن يرتقي به إلى المستوى الذي يمكنه من الوقوف في ساحة عالمية فيها المنافسة الضارية بين أنداد، كما يسودها التكامل بين أقران لابد وأن يكونوا جديرين بالشراكة التي تدفع الجميع خطوات وخطوات في طريق الرفاهية الإنسانية، ونفس هذا يقال عن أصحاب العروبة، الذين ينشدون وحدة عربية مع شعوب ينظر الأغنياء منها لمصر الآن على أنها أمة من المتسولين (صانعي أقراص الطعمية على حد قول أحدهم) والمصدرين للمشاكل والمؤامرات، فيما تنظر الشعوب الفقيرة لها كرفيق فقر وليس كشريك قوة ورفاهية!!
هكذا يكون مصير الثورات على النمط المصري المرصود حالياً، هو الفشل في التوافق مع العالم ومع الذات في نفس الوقت، وهذا قد يعني الانكفاء على الذات، كما يعني أيضاً وبذات القدر التبعثر والتشظي والتحلل.
نعود إذن ونكرر أن المشكلة المصرية لا تنحصر في هيمنة من نسميهم طيور أو ذئاب الظلام، فعلى الضفة الأخرى المقابلة نجد معارضة تفتقد لأغلب المقومات التي تلزم ثورة تتجه بالبلاد إلى ما هو أفضل، وليس إلى ضياع لن يقل إلا قليلاً في السوء عما هو متوقع ممن يمسكون الآن بالبلاد من خناقها. . هي أزمة شعب، قبل أن تكون أزمة ثورة أو أزمة حكام.
التعليقات