أضفت المجتمعات المعاصرة بعداً جديداً على الرياضة فأخرجتها من الملاعب التقليدية وأدخلتها إلى كل بيت وإلى ساحة كل قرية، وجعلتها محط اهتمام في الهيئات العليا للشركات والأسواق ومواقع المراهنات على الإنترنت. ولم تعد الرياضة مجرد نشاط يمارسه المرء للترويح عن نفسه، بل أصبحت مجالاً يدرّ الكثير من الأموال وينطوي على الكثير من المخاطر.
ففي ما يقل عن جيل من الزمن، أرست المسابقات العالمية أسس اقتصاد جديد حوّل اللاعبين إلى نجوم تستحوذ على اهتمام الجهات الراعية وقلوب الجماهير. ولكن هذا الانتشار المتزايد للرياضة وما يقترن به من مظاهر جذابة وبراقة يقابله جانب مظلم يتمثل في آفة المنشطات والفساد والتلاعب بنتائج المباريات التي باتت تعرّض الرياضة لمخاطر لم يسبق لها مثيل.
وتسلط هذه الاتجاهات الجديدة الضوء على ضرورة وضع سياسات عامة تراعي نطاق ظاهرة الفساد والغش من أجل الحفاظ على مبدأ النزاهة في الرياضة والاستفادة من الإمكانات التي يوفرها هذا المجال.
ويبرِز الارتفاع السريع في عدد عمليات الاحتيال الواسعة النطاق التي تشهدها الرياضة الحاجة إلى التحرك بسرعة لتصحيح الوضع القائم، كما يؤكد أن الكثير من الأساليب المتّبعة حالياً لمعالجة المشكلة ليست مجدية. ففي شباط/فبراير الماضي، أعلن مكتب الشرطة الأوروبي في أحدث تقرير له أنه فكك شبكة يُشتبه في تلاعبها بنتائج 380 مباراة كرة قدم. ولم تعد ظاهرة الاحتيال في الرياضة تقتصر على فعل غش يقترفه شخص ما، بل باتت تندرج في نطاق الجريمة المنظمة وأصبحت منتشرة في كافة أنحاء العالم بسبب ازدياد المراهنات على الإنترنت.
وخلافاً للاعتقاد السائد اليوم، لا يرتبط الأمر بمسابقات محترفي الرياضة فحسب. فالتلاعب بنتائج المباريات اجتاح أيضاً الألعاب الرياضية للهواة لدرجة أن تعاطي المنشطات والعنف يهددان بتقويض مبدأين أساسيين من مبادئ الرياضة هما الروح الرياضية وعدم القدرة على التنبؤ بالنتائج الذي يضفي طابع الإثارة والحماس على المباريات.
ويطرح ذلك مشاكل أخلاقية كبرى، فضلاً عن تحديات اقتصادية واجتماعية. فالأموال المختلسة في إطار هذه الممارسات تُحوَّل بعيداً عن الأنشطة الرامية إلى تطوير البنى الأساسية والمعدات، وتدريب المدرِّبين، وتنفيذ السياسات الخاصة بالتعليم والاندماج الاجتماعي من خلال الرياضة.
وسعياً إلى معالجة هذا الوضع، تنظم اليونسكو مع حكومة ألمانيا المؤتمر الدولي الخامس للوزراء وكبار المسؤولين عن التربية البدنية والرياضة (مينبس 5، برلين، 28-30 أيار/مايو) الذي سيشهد مشاركة حوالى 100 حكومة. ويقدّم هذا الحدث فرصة فريدة لدق ناقوس الخطر وحث الحكومات على التعاون من أجل رسم سياسات للرياضة تكون أقوى وأكثر شمولاً وتتيح مواجهة التحديات القائمة في عالم الرياضة اليوم.
وتستلزم هذه التحديات، بحكم جسامتها، الاضطلاع بعمل جماعي على المستويات الثلاثة التالية:
أولاً، يتعين الإقرار بأن الاحتيال في مجال الرياضة مشكلة سياسية يجب معالجتها على المستويين الوطني والدولي. ويمكن للحكومات إحراز تقدّم كبير في هذا الصدد إذا أقدمت على تخصيص الموارد اللازمة للمشكلة وعلى التعاون مع الجهات المعنية. وتقدّم تدابير مكافحة المنشطات في مجال الرياضة مثالاً جيداً على ذلك. فالجهود المنسقة المبذولة في إطار كل من الوكالة العالمية لمكافحة المنشطات (التي تتولى إعداد قائمة العقاقير المحظورة) واتفاقية اليونسكو الدولية لمكافحة المنشطات في مجال الرياضة (التي تتيح إدراج هذه التوصيات في القانون الدولي) تحدث فرقاً ملموساً على أرض الواقع.
وثانياً، يجب أن نحرص على تنفيذ التدابير الناشئة عن هذا النوع من التعاون استناداً إلى سياسات وطنية للرياضة تتسم بالاتساق ويتم إعدادها بالتشارك مع جميع الجهات المعنية، أي الوزارات المختصة والاتحادات الرياضية والمختبرات ومواقع اليانصيب على الإنترنت، وشبكات الهواة. فكل جهة من هذه الجهات غالباً ما تجهل أمر الجهود التي يبذلها الآخرون.
وبذلك نصل إلى مستوى العمل الثالث الذي يتمحور حول التعليم. فلا يمكن أن تتوافر سياسات مستدامة للرياضة ما لم تُتح لجميع الأشخاص إمكانية الانتفاع ببرامج شاملة للتربية البدنية والرياضة. وتؤدي الاستثمارات العامة دوراً رئيسياً لا في تنظيم الفعاليات الرياضية البارزة فحسب، بل أيضاً في دعم المبادرات المحلية المعدة لإتاحة فرص ممارسة الرياضة للجميع، وتدريب الأعداد الكافية من المعلمين، ووضع برامج تعليمية قابلة للتكييف من شأنها أن تجعل الرياضة محركاً للاندماج الاجتماعي والتخطيط.
وتقدّم اليونسكو منبراً للتعاون وتبادل الممارسات الجيدة من أجل تسليط الضوء على التحديات القائمة وتحويل الكلمات إلى أفعال. وفي حين تجسد الرياضة أداة قوية لنقل الكثير من القيم الاجتماعية الإيجابية مثل الروح الرياضية واحترام الآخر واحترام الذات، فإنها أيضاً وسيلة تُنقل من خلالها أفكار ومبادئ أقل إيجابية على غرار كسب المال بسهولة، والفوز بأي ثمن، واستخدام اللاعبين وصورتهم كسلعة تجارية. ومن مسؤولية جميع الجهات المعنية بالرياضة التعاون في سبيل تحديد القيم التي نصبو إليها من دون الوقوع في فخ السذاجة أو ترك الأمور للقضاء والقدر. ولا يمكن لهذا الهدف أن يتحقق تلقائياً من خلال التنظيم الذاتي. فالأمر يستلزم توافر إرادة سياسية وما يكفي من الموارد.
المديرة العامة لليونسكو
التعليقات