سلسلة الأحداث التي تتلاحق في مصر هذه الأيام, باتت أصعب من القدرة على متابعتها, فمن السقوط في الظلمة التي باتت البلاد تغرق فيها من يوم إلى آخر بسبب انقطاع الكهرباء والغاز والسولار, إلى المخاوف من انقطاع شريان الحياة في البلد التي وصفها هيرودوت انها هبة النيل, إلى فضيحة بث حوار وطنى يتناول قضايا تخص الأمن القومي على الهواء مباشرة, وفيه يقترح أحد الحاضرين ارسال لاعب الكرة quot; أبو تريكةquot; الى اثيوبيا لحل المشكلة التي تسبب فيها انشاء سد النهضة, ويقترح خلال آخر خلال هذا الحوار أن تقوم مصر ببث إشاعة عن نيتها استخدم القوة العسكرية, فيما يقترح ثالت نشر شائعات حول تموين الطائرات بالبنزين كي تبدو الأمور وكأن مصر تتأهب للقيام فعلا بضربة جوية لتدمير السد, حتى ترتدع اثيوبيا وتخاف.. هكذا!.
من كل تلك الأزمات والاقتراحات ( العبقرية) المقدمة لحلها, الى تصريحات لمسؤولين في السلطة دائما ما تخرج عن السياق, فمن quot;الحارة المزنوقةquot; إلى نظريةquot; الصوابع quot; مرورا بسؤال العام الصعب: quot; إن مات القرد.. القراداتي يشتغل إيه؟quot;, ثم الدعاء على من قالوا ان الاقتصاد quot;وقعquot; : بquot; وقعة فى ركابهمquot;.
غير أن الحديث هنا, لا يخوض كثيرا في كل تلك الازمات والاقتراحات الذكية المقدمة لأجلها من رؤساء أحزاب لا من خبراء!! بل يعني بالاشارة هنا إلى وجه مشرق في مصر, باتت سهام الجهالة توجه إليه, بهدف وحيد هو إطفائه. فالآن تزحف الظلمة حثيثا, وتنشر ستائرها, ساعية إلى إغلاق كل نافذة للضياء, ظلت مصر تطل منها على محيطها العربي والافريقي.
نحن الان نشهد حالة من الهجوم المكثف الهادف للاجهاز على الدور الثقافي, الذي ترسخ عبر ابداعات كوكبة كبيرة في كافة المجالات, وفي نفس السياق مع الهجمة التي يتعرض لها الجهاز القضائي ومعظم الوسائل الاعلامية.
وهكذا تنتقل الثقافة المصرية من أيدي مثقف كبير كثروت عكاشة, أرسى دعائم هيئات مرموقة منها هيئة الكتاب وأكاديمية الفنون وهيئة السينما والفنون الشعبية والمسرح والعديد من المتاحف, ومن سليمان حزين ويوسف السباعي إلى أيدي مجموعة شبه مجهولة لاعلاقة لها بالثقافة ولا مشاركة ولا اسهام في المشهد, ثم نراها تنقض فجأة وتفرض رؤيتها التي تصب في تقزيم الثقافة ومعاداة الفنون ووأد كل ما يمت بصلة إلى الابداع. فكيف ستكون مصر القادمة, بدون الأدب والسينما والمسرح والأوبرا, وكيف ستشرق شمسها إذا تم الانقضاض على صناعة الكتاب ووسائل المعرفة والاستنارة؟
كيف يمكن لهؤلاء وقف النبض الحقيقي في قلب دولة ظل حكمائها يكتبون فوق أوراق البردي وجدران الأهرام, وكيف ستتمكن الظلمة من إطفاء نور ظل يشع منذ آلاف السنين؟ من المؤكد أنهم واهمون, وعلى وجه اليقين فان تلك الفترة القاتمة سوف تنزاح في النهاية, مثلما انزاح غيرها, وذهب الى طي النسيان.
والان, هل يتذكر أحد تلك المعركة الأدبية التي دارت في نحو العام 1984 بين قامة مصرية كبيرة هي يوسف ادريس ووزير للثقافة, أكاد أجزم أن أعدادا قليلة هي التي تتذكر اسمه الآن, وقتها كتب الوزير مهاجما بشدة مقال لادريس كان يحذر فيه من أن التدهور في الفكر والثقافة بعد سيطرة أجهزة عاجزة على النشاط الثقافي, سوف يساهم في إعاقة الإبداع الحقيقى. وجاء رد الوزير بمقال في نفس الصحيفة وصف فيه يوسف ادريس بالمخدور، وquot;المجوف الفكرىquot; . انقضى كل ذلك الآن, انتهت المعركة , وتلاشى غبارها, لكن كتب يوسف ادريس لا زالت شاهدا على أن الأدب لا يموت مهما حاول الذين يريدون قمعه, وان أفلام اسماعيل ياسين وعادل أمام ستظل ترسم الابتسامة على وجوهنا, مثلما تظل خفة دم سعاد حسني وشادية تبعث البهجة في نفوس المشاهدين. ومثلما تنساب أصوات أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم في عمق الروح. تماما مثلما يبزغ الفرح عند نطوي الصفحة الأخيرة من رواية لنجيب محفوظ.
هذا هو الفن, وهذا هو الادب, حيث يبقى الابداع دائما محفورا في ذلك الجزء الغائر من الوجدان, لكن الذين ينظرون إليه من أشد الجوانب ظلمة, لا يتعاملون معه إلا من باب القمع والوأد, ولا يواجهونه بابداع مماثل, بل بتنافس محموم على رسم الجهامة والغلظة فوق الملامح.
لذلك لم يعد غريبا, أن تصل الأمور الى هذه الدرجة التي يتم عندها تغطية تمثال لأم كلثوم في مسقط رأسها بنقاب اسود, ويتم فيه اقتلاع رأس تمثال لطه حسين, وخلال تلك الأعمال الرعناء, تتصاعد الدعوة لهدم تراث الفراعنة العظام, ويكون هناك أيضا من يطلق النفير عاليا لخوض معركة التدمير.
هذا هو الحال الذي وصلت إليه الأحوال, وهذه بعض ثمار النهضة الميمونة, فما الذي يريده الشعب أكثر؟