من مفكرة سفير عربي في اليابان

خلق الخالق جل شأنه الإنسان وميزه عن باقي المخلوقات بالعقل. ويتميز العقل البشري بمجموعة متنوعة من الذكاء، ومن أهمها الذكاء الذهني، الذي يجمع ويدرس الإنسان من خلاله المعطيات، ليحللها، ويصدر قرارات متزنة. ولكي تكون هذه القرارات حكيمة، يحتاج الإنسان أيضا لذكاء اجتماعي ليتواصل من خلاله مع أقرانه بظرف واحترام للتعامل مع الخلافات الحياتية، وذكاء عاطفي لكي يسيطر على انفعالاته وعواطفه ويوجهها بحكمة ليحقق مصالحه الذاتيه والمجتمعية، وذكاء روحي ليتفهم سبب وجوده في الحياة الفانية ومسئولياته فيها وإلى أين هو ذاهب بعدها. ويزداد أهمية الذكاء العاطفي كلما زادت مسئوليات الانسان، وأرتفع شأنه في قيادة مجتمعه. وقد لفت نظري مؤخرا فيلم تاريخي، من انتاج أمريكي ياباني، يناقش دور الذكاء العاطفي لدي جلالة الإمبراطور الياباني، هيروهيتو، والجنرال الأمريكي، دوجلاس ماك أرثر، في التعامل مع الاستسلام الياباني بعد الحرب العالمية الثانية، كما أدهشني جمال تناغم العمل بينهما، ليقوا اليابان من نهاية فوضى مدمرة، بل تحويلها لثاني اقتصاد عالمي، بالتعاون مع حليف أمريكي صديق.
عرض فيلم quot;الإمبراطورquot; في العاصمة اليابانية طوكيو، وفي شهر أغسطس الجاري، وقد انبهرت بقصة الفيلم والحوار والإخراج. كما أثبت الممثلين تومي لي جونس، الذي مثل دور الجنرال دوجلاس ماك أرثر، وماثيو فوكس، الذي مثل دور دور البرجيدير جنرال بونر فيلر، قدراتهم الإبداعية في التمثيل. وبينما كنت اشاهد الفيلم تذكرت كيف أن الحرب النووية الأمريكية المرعبة ضد اليابان، انتهت بعلاقة حميمة متناغمة بين الطرفين، منعت من ميل اليابان للشيوعية، وأدت لبناء اقتصادها وتكنولوجيتها الصناعية خلال عقود قليلة. ورجعت مخيلتي بذكريات حرب العراق وما أنتجته من دمار وقتل، لتنتهي بهزيمة الولايات المتحدة في النهاية، وتدهور اقتصادها، وانسحابها من المنطقة، وتركها العراق لقمة سائغة لعدوها الإيراني اللدود، بالإضافة لما رافقت الحرب من نزاعات قبلية وطائفية، والتي وفرت البيئة المناسبة لعمل تنظيم القاعدة، عدو الولايات المتحدة الأبدي. ويبقى السؤال لعزيزي القارئ: هل هناك فرق كبير بين الذكاء العاطفي لزعماء هاتين المرحلتين من التاريخ الياباني الأمريكي، والعراقي الأمريكي؟
تبدأ قصة فيلم quot;الإمبراطورquot; بإلقاء القنبلتين الذريتين على مدينتي هوريشيما ونجزاكي، في النصف الأول من شهر أغسطس عام 1945، والذي أدى لدمار شامل لهاتين المدينتين، وقتل وجرح مئات الالاف من اليابانيين، نساء وأطفال وشيوخ وكهول، بعد أن حرقت ودمرت القنابل التقليدية الأميركية عدة مدن يابانية، بالإضافة للعاصمة طوكيو. وقد انتهت الحرب بقبول اليابان بالهزيمة مع تعيين الجنرال الأمريكي، دوجلاس ماك أرثر، القائد العسكري العام لقوات الحلفاء في اليابان. وقد كانت هناك ضغوط شعبية في الولايات المتحدة للانتقام، بمحاكمة جلالة الامبراطور كمجرم حرب، وشنقه. وقد أيدت القوى السياسية والحكومية الأمريكية هذه الضغوط، مما أدى لتعقيد الوضع في تحكم الإدارة العسكرية للحلفاء في اليابان، بقيادة الجنرال ماك ارثر، والذي كان يطمح للنزول لانتخابات الرئاسة ألأمريكية، بعد نجاح مهمته هذه.
وقد حاول الجنرال ماك ارثر تهدئة الغضب الشعبي الأمريكي، بإصداره قرار، للبحث عن مسئولية الإمبراطور والقيادة السياسية والعسكرية عن الهجوم الياباني على الأسطول الأمريكي بمدينة بيرل هاربر. وقد انشغل الجنرال ماك ارثر لنجاح مهمته بفكرة بناء اليابان، لا تدميرها، لمنعها من التحول لحليف للإتحاد السوفيتي، بعكس ما فعلت إدارة الرئيس جورج بوش الابن في العراق، بتركها لقمة سائغة لعدوها الإيراني. لذلك قرر الجنرال ماك أرثر أن يختار فريق يرأسه عسكري أمريكي يسمى بونر فيلر، للبحث عن مسئولية الإمبراطور الياباني. وقد كان فيلر خبير في الثقافة والحكمة اليابانية، وعدو لدود للشيوعية، وكان تخوفه من أن يؤدي محاكمة الإمبراطور وإعدامه، لحالة من الفوضى والعصيان المدني، والتي قد تؤدي للحاجة لأكثر من مليون عسكري أمريكي للسيطرة على الوضع. كما كان التخوف من أن تقترب اليابان من العدو الشيوعي السوفيتي، لتنتشر الشيوعية في المنطقة بعد أن تصبح اليابان حليف شيوعي للإتحاد السوفيتي.
والجدير بالذكر بأن الجنرال فيلر كان مغرما باليابان منذ أن كان طالبا في الجامعة بالولايات المتحدة، حيث التقى بفتاة يابانية إسمها quot;آيةquot;، أحبها، وانغمس معها في حب اليابان وثقافتها وشعبها. وقد رجعت هذه الفتاة من الولايات المتحدة إلى اليابان مع بدأ الحرب، بينما نقل الجنرال فيلر لقاعدة عسكرية أمريكية في ماليزيا، قبل أن ينتقل لليابان. وحينما وصل لطوكيو مع جنرال ماك أرثر كانت أمامه مسئولية عسكرية كبيرة في البحث عن مسئولية جلالة الامبراطور في الهجوم على مدينة بيرل هاربر لتقديمه للمحاكمة، وشنقه كمجرم حرب، بالإضافة لمسئولية شخصية في البحث عن حبيبته، التي تبين بأنها قتلت مع طلبتها بقنبلة أمريكية، حينما كانت في فصل مدرسي تدرس اطفال اليابان اللغة الانجليزية. وقد مثلت دور حبيبة الجنرال فيلر، آية شيمادا، الممثلة اليابانية، أريكو هاتسونه، كما مثل دور جلالة الإمبراطور الممثل الياباني، تاكاتارو تاكا اوكا.
لقد نجحت الحبكة الدرامية في زيادة شوق المشاهد لأحداث الفيلم، حينما جمع كاتب الفيلم بين المهمة العسكرية للجنرال فيلر، والبحث عن حبيبته اليابانية بين حرائق الحرب النووية. وقد كانت مهمته شاقة، بسبب الخوف من أن ينتحر المسئولون اليابانيون المشتبه بهم، قبل أن يتعرضوا للاعتقال والاستجواب، وفعلا، نجح بعضهم الانتحار، قبل وصول القوات الامريكية لاعتقالهم. وفي جلسات الاستجواب الأمريكية، حاولت جميع القيادات اليابانية المدنية والعسكرية إقناع الجنرال فيلر بأن جلالة الامبراطور قد عارض الهجوم الياباني على مدينة بيرل هاربر، كما حملت قيادات العسكر اليابانية مسئولية رفضها الاستسلام بالرغم من اصرار جلالة الامبراطور على ضرورة الاستسلام لحماية اليابان من الدمار الشامل، بل اقتحموا العسكر القصر لأخذ تسجيل صوتي، يعلن فيه الامبراطور للشعب الياباني قراره بالحاجة للاستسلام. وقد أنهى الجنرال فيلر تقريره، بحكمة وإنسانية، بتأكيده بأن التحريات لم تتمكن من إثبات مسئولية جلالة الامبراطور في الهجوم على الاسطول الامريكي على مدينة بيرل هاربر، وبذلك تمكن من منع محاكمة وشنق جلالة الإمبراطور الياباني، بينما تعرضت بعض القيادات اليابانية المدنية والعسكرية الأخرى للمحاكمة، وانتهى بعضهم بالشنق أو السجن.
وقد عرض الفيلم بشكل جميل ذكاء الجنرال ماك ارثر الذهني والعاطفي، بدراسته للوضع الياباني، وتفهمه لخطورة الانتقام في تحويل اليابان لعدو دائم وحليف للشيوعية السوفيتية، بل وجد من الضرورة تحويل اليابان لحليف أمريكي ليعتمد على الولايات المتحدة في بناء اليابان من جديد، ومن خلال مبيعات البضائع والصناعات الأمريكية، لتستفيذ بلاده، فتشغل مصانعها وتقلل البطالة بين مواطنيها.
وبعد أن قدم الجنرال فيلر تقريره للجنرال ماك أرثر، وأكد فيه بأن جلالة الامبراطور كان له دور مهم لوقف الحرب، كما لم يثبت تقريره أي مسئولية للإمبراطور الياباني في الهجوم على الاسطول الامريكي ببيرل هاربر. وقد قام الجنرال ماك ارثر بعد قراءة هذا التقرير، ومناقشته مع حكومته، بدعوة الامبراطور لمكتبه. وقد أبرز الفيلم هذا اللقاء الجميل بين الإمبراطور الياباني والجنرال ماك أرثر، وفي مكتب الجنرال الأمريكي، وبشروط يابانية صارمة للقاء، منها بعدم النظر الجنرال في عيون جلالة الإمبراطور، وعدم مصافحة جلالته، وعدم الانفراد به في الحوار. وقد خالف الجنرال ماك أرثر جميع هذه الشروط، فصافحه ونظر في عينيه في بداية اللقاء، كما استفرد بجلالة الإمبراطور في اللقاء به. وقد قبل الإمبراطور بحكمة هادئة هذا التغير المفاجئ، بالرغم المعارضة الشديدة من المرافقين من القصر الإمبراطوري. وبدأ جلالة الإمبراطور لقاءه مع الجنرال باعترافه بمسئوليته الكاملة عن الحرب، بشرط ألا يتعرض أي من أبناء أو قيادات شعبه للمحاكمة. وطالب بأن تحدد المحاكمة كاملة في شخصية جلالة الإمبراطور، مع استعداد جلالته لتقبل أي حكم تصدره محكمة الحلفاء ضده. وقد تصرف الجنرال ماك كارثر بكل هدوء، وتواضع، وحكمة، مع طلب جلالة الإمبراطور، وأكد بأنه موجود في اليابان ليس للانتقام، بل ليعمل كشريك مع جلالته لبناء اليابان من جديد.
لقد حول الجنرال ماك أرثر، بطبيعة ذكاءه العاطفي، وتحليلات ذكاءه الذهني، العدو الياباني، لحليف جديد للولايات المتحدة، وداعم أساسي للرأسمالية الغربية، بل عدو لدود للشيوعية والإتحاد السوفيتي، بعدما أقتنع الجنرال بأن الانفعال العاطفي الأمريكي الشعبي، للانتقام بمحاكمة الامبراطور وإعدامه، لمسئوليته عن الهجوم على بيرل هاربر، سيزيد الطين بلة. لذلك تفهم بأن غض النظر عن مدى مسئولية الامبراطور في الهجوم، ومنع محاكمته واعدامه، سيخلق الارضية اللازمة لتطوير العلاقة الاميركية اليابانية، مع بناء اليابان من جديد، للاستفادة من قدراتها العلمية والتكنولوجية، وفتح اسواقها الضخمة لبيع المنتجات الصناعية الامريكية، لتنمية اقتصاد الولايات المتحدة وخفض البطالة بين مواطنيها بعد دمار الحرب العالمية الثانية.
وفعلا نجح الذكاء العاطفي للجنرال ماك ارثر quot;في تعامله مع اليابانquot; أن يحول عدو شرس إلى صديق درب وحليف. وذكرني ذكاء هذا القائد العسكري الأمريكي، بغباء من كانوا يخططون من وراء ظهر إدارة الرئيس الأمريكي بوش الابن، التي سمحت بتدمير العراق، وتحويله لدولة حرب طائفية، مما أدى لهروب الولايات المتحدة منه، وتركه لقمة سائغة لأعدائها التقليدين، القاعدة وإيران. ويبقى السؤال لعزيزي القارئ: هل ستستفيد قيادات دول الشرق الأوسط من هذه التجربة في الذكاء العاطفي، لكي تتجنب الانفعال والانتقام في خلق صراعات وثورات وحروب جديدة، بل تستفيد من الانتصار لتحويل أعداء الماضي لأصدقاء المستقبل، في دروب السلام والتنمية؟ ولنا لقاء.
سفير مملكة البحرين في اليابان