من مفكرة سفير عربي في اليابان

الثقافة اليابانية غنية، وتتميز بالذكاء العملي لخلق تناغم مجتمعي جميل، يجمع بين أدب وظرف فن المحادثة الكلامية والصامته، وهدوء وحكمة ضبط الأعصاب، وصدق وصراحة التعامل، وأمان وسلام السلوك، ليخلق كل ذلك نوع من الطمأنينة، والأمان، والحكمة، والراحة في المعيشة الحياتية باليابان. والعجيب بأن تناغم السلوك ترافق باحترام الوقت، ودقة الأداء، وحرفية المهنة، وإتقان العمل، وقد أدى كل ذلك لتناسق رائع بين روحانية الشخصية اليابانية، وجمال أخلاقيات سلوكها، وبراعة أدائها في العمل. وقد تطورت هذه الشخصية عبر العصور من خلال ثقافة مجتمعية تجمع تالف جميل بين الإنسان والطبيعة، ومرتبطة بفلسفة روحانية هادئة، وتضم ظواهر فنية مجتمعية، تجمع بين جمالية تنسيق الزهور، وبراعة الكتابة الكولوغرافية، وفن مسرح النو، وإحتفالية شرب الشاي، وتقديم الحلويات الجميلة المنظر والشهية الطعم، بل وحتى جلسة الطعام اليومية قد تأخذ شكل احتفالية فنية، تجمع بين تنوع جميل لوجبة الطعام، وفي أواني أنيقة فاخرة، مع تنسيق جميل للورود على طاولة الأكل.
ولنحاول عزيزي القارئ في هذا المقال تفهم بعض مظاهر الثقافة اليابانية من خلال دراسة ظاهرة طقوس حفلة الشاي، كما سنستعرض في الجزء الثاني من المقال علاقة هذه الظاهرة بفلسفة الزن البوذية والتي انتشرت في اليابان بعد القرن الخامس الميلادي، منتقلة من الصين، من خلال شبه الجزيرة الكورية، بعد أن بدأت في شبه القارة الهندية في القرن السادس قبل الميلاد.
تسمى في اللغة اليابانية احتفالية شرب الشاي ب quot;السادوquot;. وتجمع هذه الاحتفالية طقوس كريوغرافية دقيقة في السلوك، وهادئة في بيئة التحضير، وجميلة في ترتيب موقع ومكان وجدران هذه الاحتفالية. ويتم تحضير وتقديم مسحوق الشاي الأخضر، المسمى ب quot;ألأوشاquot;، بعد أن يقدم للضيف الحلويات التقليدية اليابانية، رغبة في خلق توازن بين مرارة طعم الشاي، مع حلاوة لذة الحلويات. وتجمع هذه الطقوس بين كرم استقبال الضيوف، وآداب التعامل معهم، مع سلوك احترام تواجدهم، بالإضافة لفلسفة جمال أعداد كأس كبير من الشاي، من خلال رغبة من صميم قلب المضيف، كما يهتم الشخص المضيف بكل حركة صغيرة من حركاته.
وقد عرف شرب الشاي في الصين منذ القرن الرابع، ونقلت بذور الشاي الأخضر من الصين إلى اليابان في عصر سلالة quot;التانجquot; الصينية الحاكمة في الفترة ما بين عام 617 وحتى عام 907 ميلادي، بعد أن وصل التبادل الثقافي بين الصين واليابان إلى القمة. وقد بدأت كتب التاريخ ذكر طقوس حفلة الشاي في القرن الثامن، كما كتب كاهن بوذي صيني كتاب باسم، شا شنج، عن كيفية تحضير الشاي، ويعتقد بان أساسيات حفلة الشاي اليابانية اقتبست من هذا الكتاب.
وقد طورت زراعة الشاي الأخضر في اليابان في عصر quot;ناراquot;، في الفترة ما بين عام 710 وحتى عام 794 ميلادي، واستهلك الشاي في هذه الفترة من قبل الكهنة والنبلاء كنوع من الدواء. وتحولت مع الوقت استخدامات الشاي من دواء إلى شراب في الصين مع نهاية عصر حكم quot;التانجquot; في بدايات القرن العاشر، ولكن لم تتطور هذه الثقافة في اليابان إلا بعد زمن طويل، بسبب تعرض العلاقات الدبلوماسية الصينية اليابانية لخلافات جديدة في هذه الفترة. وقد كانت كمية الشاي المتوفرة قليلة جدا في اليابان في تلك الفترة، لتصبح سلعة ثمينة في فترة عصر quot;ناراquot; وعصر quot;الهينquot; بين عام 794 وحتى عام 1192. كما تطورت مفاهيم ثقافة احتفالية شرب الشاي على أساس ندرته في ذلك الوقت، لذلك يعتقد بعض المؤرخين بأنه لو كان الشاي متوفر بكثرة في تلك الفترة، لما تطورت طقوس احتفالية شرب الشاي في اليابان بهذه الدرجة.
وفي عصر الكاماكورا، في عام 1187، قام كاهن ياباني يدعى quot;ميون إيسايquot;، بالسفر للصين لدراسة الفلسفة الصينية ودياناتها. وحينما رجع إلى اليابان أصبح مؤسس للعقيدة البوذية في اليابان والتي تعرف باللغة اليابانية بعقيدة quot;الزنquot;، وقام بجهد كبير لبناء أول معبد لهذه الطائفة. وتبين كتب التاريخ بأن هذا الكاهن البوذي كان أول من زرع الشاي لأهداف دينية، بدل زراعته سابقا كنوع من أنوع النباتات العلاجية، كما لعب دورا في تطوير طرق تحويل أوراق الشاي إلى مسحوق الشاي الأخضر، بالإضافة لطقوس غلي الماء قبل تحضير كأس الشاي وإضافة مسحوق الشاي فيه. وقد ذكر الإمبراطور quot;سانجquot; في كتابه، النظرة العامة للشاي، طريقة خاصة لمزج الشاي بالماء المغلي باستخدام مقشة من الخيزران. وقد برز بعض العداء من الكهنة البوذيين اليابانيين الذين لم تعجبهم فكرة الكاهن quot;ميون إسايquot; الدينية عن شرب الشاي، التي استوردها من الصين، ولكنه مع ذلك نجح في إقناع بعض قيادات السموراي، الشوجن الكاماكورا للدفاع عنها، لتستمر هذه الثقافة في التطور مع الوقت.
وقد أستمر اهتمام الراهب البوذي، إساي، بتطوير احتفالية شرب الشاي، وكتب بحث طويل عن فائدة شرب الشاي للصحة، وخاصة في علاج فقدان الشهية، ومرض البريبري والشلل حسب وجهة نظره، وبذلك انتشرت عادة شرب الشاي في اليابان، وخاصة بين عساكر السموراي. وقد ابتلت اليابان بحرب أهلية بعد أن ضعف عساكر الشوجن الكماكورا في عام 1333، وفقد الشعب الياباني الثقة بهم، لتنتهي سلطة الحكومة المركزية. وليبدأ عصر جديد لطبقة نبلاء الجيكوكوجو، الذين اشتهروا بالبذخ، وانتشرت حفلات تذوق الشاي بينهم، وخاصة الحفلات التي كانت تقدم جوائز ثمينة لأكثر أنواع أوراق الشاي الأخضر جودة. كما زاد هوس تقديم عدد كؤوس الشاي للفرد الواحد في الحفلات لترتفع من عشرة كؤوس شاي لحوالي المائة كأس للفرد في الحفلة. لذلك تطورت في هذه الحفلات فكرة استخدام كأس كبير للشاي ينتقل بين المدعوين، بدل أن يكون لكل ضيف كأسه الخاص. كما انتشرت عادة تنقل كأس الشاي بين افراد العائلة في مجتمعات عساكر السموراي، التي كانت علاقاتهم العائلية حميمة.
وقد اشتهر الكاهن الزن البوذي الياباني، quot;موراتا شوكوquot;، بتصميم غرف صغيرة لاحتفالية شرب الشاي، كما عرف بعدها باسم الأب الروحي لاحتفالية شرب الشاي، حيث طور طقوس الاتيكيت المتعلقة بها. وقد درس quot;موراتاquot; البوذية وهو في الحادية عشر من العمر، واستمر في خدمة المعبد حتى العشرين من عمره، كما طور طقوس حفلة شرب الشاي في غرف صغيرة، وربطها بفلسفة الزن البوذية اليابانية، وطور حميمة العلاقة بين ضيوف شرب الشاي، حسب المفاهيم البوذية اليابانية.
والجدير بالذكر بأن الادوات والأواني التي تستخدم في تحضر حفلة الشاي، قد تكون متنوعة وقديمة وثمينة جدا لقدمها، وقد ترجع بعضها لمئات السنين، وبتصاميم لحقب تاريخية مختلفة، وبرسوم فنية فاخرة. كما أن الخطوات العملية للتحضير لطقوس احتفالية شرب الشاي معقدة، ومرتبطة بآداب سلوك صارمة، وبرحانيات عميقة، مع صمت كامل وبصفاء ذهني عجيب. كما تختلف الترتيبات حسب فصول السنة، بل وحسب اوقات اليوم. فترتيبات حفلة الشاي في الشتاء تختلف تماما عن مراسيم فصل الربيع بألوانه وأزهاره الجميلة، كما تجمع حفلة الفجر متعة تذوق الشاي الأخضر، مع الاستمتاع بجمال بزوغ الشمس تدريجيا، بينما تتميز في المساء بالاستمتاع بجمال القمر. وتطورت ثقافة احتفالية شرب الشاي مع الوقت لتنتشر بين الشعب الياباني، كما تتدرب النساء اليابانيات على تحضيرات هذه الاحتفالية. فيتم عادة دعوة خمسة إلى سبعة من الأصدقاء لاحتفالية شرب الشاي، ويتم الجلوس على حصير من أوراق الخيزران، وفي غرفة صغيرة، وتكون الحفلة على شرف كبار الضيوف، بدءا بالضيف الأول ثم الثاني ويتبعهما البقية. ويتسلم قيادة المحادثة الهادئة ضيف الشرف، ويفضل باقي الضيوف الصمت والاستماع، كما ان هناك قوانين صارمة لآداب دخول الغرفة والمشي فيها، وطريقة الجلوس على حصير الخيزران، وطرق التعقيب في المحادثة. ولنا لقاء.
سفير مملكة البحرين في اليابان