من مفكرة سفير عربي في اليابان

ناقشنا في الجزء الأول مشكلة عولمة البطالة، حيث أرتفع عدد الشباب العاطل في العالم عن أي وقت مضى، فكما ذكرت مجلة الإيكونوميست الاقتصادية البريطانية في شهر أبريل الماضي بأنه هناك في دول الغرب ما يقارب 26 مليون شاب عاطل عن العمل أو الدراسة أو التدريب، ويتراوح أعمارهم بين 15-24 سنة. وتؤكد منظمة العمل الدولية بأن هناك 75 مليون شاب في العالم يبحثون عن عمل، بينما تبين تقارير البنك الدولي بأن هناك 262 مليون شاب في الدول الصاعدة بدون عمل منتج اقتصاديا. وتعتمد هذه الأرقام على طريقة القياس، ولكن يمكن أن نقول ببساطة بـأن هناك مجموع 311 مليون شاب عاطل عن العمل عالميا.
وقد ترجع عولمة البطالة لسببين: البطء الاقتصادي العالمي الذي خفض الحاجة للقوى البشرية العاملة، وسهل الامتناع عن توظيف الشباب، بالإضافة بأن التكاثر السكاني في الاقتصاديات الصاعدة أسرع من ارتفاع نسب فرص العمل، لتكون النتيجة الحتمية لذلك انتشار البطالة عالميا.
وقد تكون التحديات الانفة الذكر جزءا من أزمة البطالة العالمية، ولكن هناك تحديات أخرى من أهمها تحديات التغير السريع لمهارات سوق العمل، وتحديات كيفية تهيئة الشباب للتعامل مع هذه التغيرات السريعة. وقد حاول الصحفي الأمريكي، ثوماس فريدمان، مناقشة هذه التحديات، بصحيفة انترناشنال هيرالد تربيون، في مقال تحت عنوان، تريد عملا أخترعه. بدأ الكاتب مقاله بعرض محاولة quot;أخصائي التعليمquot; بجامعة هارفرد، طوني وجنر، شرح وظيفته بقوله: quot;مترجم بين قبيلتين متعاديتين، عالم التعليم وعالم التجارة، تضاد بين الفئة التي توفر لأطفالنا التعليم، والفئة التي توفر لهم العمل.quot;
فقد ناقش بروفيسور وجنر في كتابه، خلق المخترعون وصنع الشباب الذين سيغيرون العالم، بأن تعليمنا الأولي والجامعي غير متآلفين، وبأن أهم ما يحتاجه تعليم اليوم لتطوير سوق العمل، هو القيمة المضافة، وتعليم المهارات. وخاصة بعد أن انكمشت الرواتب المرتفعة لمهارات العمل المتوسطة، والتي خلقت جماهير الطبقة الوسطى في القرن الماضي.
ويؤكد وجنر بأنه لم يبقى اليوم إلا رواتب مرتفعة لمهارات عمل متميزة، فقد دفعت جميع مهارات العمل المتوسطة للأعلى أو للأسفل، فقد يحتاج عمل اليوم لمهارات اكبر، أو يمكن أن يتم هذا العمل بعدد أكبر من قوى العمالة المتوفرة في مختلف أنحاء العالم، أو الاختيار الاخر بأن تتحول هذه الوظيفة لعمل بائد.
لذلك أصبح دور التعليم الأولي والثانوي اليوم أساسيا لتجهيز الطالب، ليس لدخول الجامعة، بل لكي يكون مبدعا ومخترعا، فيستطيع أن يزيد القيمة المضافة على عمل اي شيء يقوم به. كما يطرح البرفيسور وجنر مشكلة أخرى وهي بأن اليوم التحدي ليس في ما لا نعرفه، بعد أن وفرت الانترنت محيطات كبيرة من المعلومات، ولكن التحدي الأكبر تعلم كيفية استخدام هذه المعلومات للاستفادة منها في تطوير الاقتصاد، ونموه، لخلق فرص عمل جديدة، ولكي نتفهم ذلك، لنحاول أن نتصور كم وظيفة عمل خلقت اختراعات الكومبيوتر والانترنت.
لقد برزت اليوم مهارات جديدة أكثر من التهام المعلومة الأكاديمية، وهي مهارات القدرة على الاختراع، بحل المعضلات المستعصية أو التعامل معها، بل بإضافة احتمالات جديدة للحياتنا، بمهارات التفكير النوعي الابداعي، وعمليات التواصل والتعاون العملي والاكاديمي. وكما قالها أحد مسؤلي الشركات الكبيرة: quot;نحن نستطيع أن نعلم الموظف الجديد المحتوى والمعلومة، ولكن لا نستطيع أن نفهمه كيف يفكر أو يسأل السؤال الصحيح، كما لا يمكننا تطوير روح المبادرة لديه، بل كل هذه المهارات يجب أن تطور في سن مبكر من مرحلة الحضانة وحتى مرحلة الدراسة الثانوية.quot;
وقد كان سهلا على الاجيال الماضية الحصول على العمل، ولكن سيكون من الصعب على الجيل القادم الحصول على عمل إن لم يخترع هذا الجيل أعماله الجديدة، لينمو الاقتصاد فيوفر فرص جديدة لأعمال مبدعة ومنتجة، توجد إختراعات جديدة، لتشجع الشركات على تصنيعها، أو تقديم خدماتها. وقد يكون من الصعب حتى بين المحظوظين الذين يحصلون على الوظيفة، مع التغيرات السريعة، لن يستطيعوا الاستمرارية في سوق العمل، إلا بتطوير مهارات الاختراع وهندسة الوظيفة من جديد، بالإضافة لتطوير تصورات جديدة، لتطوير تلك الوظيفته لكي يتقدموا فيها، قبل أن يخسروها بعد أن تصبح بائدة. ومن السهل جدا أن تتحول الوظيفة الموجودة اليوم، بالتغيرات التكنولوجية السريعة، إلى وظيفة بائدة، لا يحتاجها أحد، كما أن زيادة التقشف، مع زيادة نسب البطالة، لن تعطي الفرصة للتكرم بالتوظيف في وظائف بائدة لخلق بطالة مقنعة، فتشل الاقتصاد وتعطل التنمية.
ويوجهنا اليوم سؤال مهم جدا: ما الذي يجب على الشاب معرفته اليوم؟ فقد نقول المعلومة. وقد نكون صائبين بكلمة نعم، فقد يحتاج كل شاب للمعلومة، ولكنه ايضا يحتاج للمهارات المتقدمة والتحفيز. فالتحفيز أهم اليوم من أي وقت مضى، فالشاب الذي يجمع اندفاع الحافز (والذي نعني به الفضولية، المعرفية، والإصرارية، والرغبة في مواجهة المخاطر) سيستمر في الاصرار على التعلم، ليس فقط للبحث عن معلومات حديثه، بل أيضا سيحاول أن يطور في نفسه مهارات جديدة، وبذلك يكتشف الشباب فرص عمل جديدة، بل قد يخترعونها بأنفسهم، وقد اصبح ذلك مهما جدا، بعد أن بدأت تختفي الكثير من الوظائف التقليدية.
ويتساءل البرفيسور وجنر: كيف تكون عملية الاصلاح في التعليم؟ فقد عمل تعليمنا التقليدي على تدريس الشباب معلومات كثيرة، لا تفيدهم، وقد لا يحتاجونها ابدا، بل ينسون معظمها بعد الامتحان، ولذلك بينت الدراسات بأنهم كلما استمروا اكثر فترة في الدراسة، كلما قل تحفزهم وضؤلت مبادراتهم. وقد بينت استطلاعات quot;جالوبquot; بأن مشاركة الطالب تنخفض مع الوقت من 80% في الصف الخامس الابتدائي، إلى أقل من 40% في الدراسة الثانوية.
ويقترح البروفيسور وجنر لمعالجة هذه التحديات، علينا تصور تدريس الألفية الثالثة، كما تصورتها الشركات المبدعة في برامجها التدريبية في القرن الماضي. فعلينا أولا التركيز على تعليم المهارات، مع الرغبة الممتعة في التعليم، بالإضافة لعوامل ثلاث أساسية في التحفيز وهي:التسلية، والحماس، والهدف.
ويبقى السؤال المهم: ما يعني كل ذلك للمدرس ومدير المدرسة؟ ويرد البروفيسور بأن الجواب قد يكون في أن يدرب المدرس الطالب على الأداء المتميز، كما على المدير خلق بيئة وثقافة التعاون في المدرسة للاختراع والإبداع. ويجب علينا إلا ننسى بأن ما سنمتحنه من مواد، سيصر الطالب على دراستها ومراجعتها. لذلك نحتاج هنا لمسئولية المدرس ومحاسبته، لنتأكد من أثبات الطالب مهاراته في التفكير الابداعي والتواصل الاجتماعي، لخلق فرق عمل مبدعة ومنتجة، ويمكن تطوير هذه المهارات منذ مرحلة الحضانة وحتى المرحلة الجامعية.
وهناك مثل جميل للتعليم الحديث، وهي فنلندا، والتي تعتبر اليوم أكثر اقتصاد ابداعي، وبلد مخترع، وهي البلد الوحيدة في العالم التي يتخرج فيها الطالب من الثانوية وهو معد للإبداع والاختراع. فالطالب يتعلم مفاهيم التفكير والإبداع اكثر من ابتلاع حقائق المعلومة، كما لديه حرية الاختيار في تحديد برامج تعليمه، بالإضافة لقلة ايام الدراسة، وندرة الواجبات المنزلية، مع شبه انعدام الامتحانات. فقد حول الفنلنديون الدراسة لفن متعة، تطور شخصية الإنسان، وتحول المواطن لمفكر وفنان مخترع.
فتصور عزيزي القارئ النموذج السليم في العالم اليوم، لدولة تهيئ جيلها القادم للعمل المبدع والمنتج، للوقاية من افات البطالة، والبطالة المقنعة، دولة تكون فيها التعليم ممتمع، وبقلة أيام الدراسة، وندرة الواجبات المدرسية، وشبه انعدام الامتحانات. وقد تستفيد دول الشرق الأوسط من هذه التجربة النموذجية، لتتجنب حشو عقول طلابها بمعلومات تقليدية بائدة، ولتقلل نسب ساعات الدراسة، وتقلل من الواجبات المدرسية، وتحذر من الامتحانات التقليدية المرهقة والمرعبة للطالب، لتقي من حبس المتعلم في صندوق المراجعة المزمنة، ولتمنع خنق اوقاته، لتقربه من متعة البحث والتعلم، ولتطور فيه مبادرات الابداع والاختراع.
ويبقى السؤال: هل حان الوقت لمراجعة نظم التعليم في وطننا العربي لنحرر الشباب من ملل المراجعة التقليدية، ونعطيهم الفرصة لمتعة اكتشاف مواهبهم وإبداعاتهم، ووقايتهم من افة البطالة والبطالة المقنعة، التي تشل الاقتصاد وتمنع نموه، لنحمي المجتمع من الجريمة والعنف والارهاب، بل لنقي البلاد من الثورات المدمرة التي بلعت اطفالها في دول الشرق الأوسط في القرن الماضي؟ ولنا لقاء.
سفير مملكة البحرين في اليابان