من مفكرة سفير عربي في اليابان
يقدر العلماء عمر الكون بحوالي 13.798 مليار سنة، بينما يقدرون عمر الكرة الأرضية التي نعيش عليها إلى 4.54 مليار سنة، كما تبين الدراسات الأركولوجية بأن الحضارة الإنسانية المعاصرة ترجع لما يقارب 10 آلاف سنة. وقد بدأ الإنسان المعاصر تقدمه على سطح الكرة الأرضية بتطوير الزراعة، وحينها لفتت نظره قوى الطبيعة الخارقة الخارجة عن إرادته، فأدرك بأنه ليس في الكون وحيدا، بل هناك قوى كونية أخرى. وبدأ الإنسان يدرك هذه القوى الطبيعية، بتفهمه لأهمية الشمس والماء والتربة للزراعة. وحينما أكتشف بأن قوى الطبيعة توفر السحب والأمطار للزراعة، وحرقة حرارة الشمس والجفاف للقضاء عليها، بدأ استيعاب هذه القوى والاهتمام بها، وإيجاد السبل العملية لإرضائها، فبدأ يصلي للشمس، ويدعي السماء لنزول المطر، ويتحدث عن الحب والغزل بوجود القمر. ولتبدأ كتب التاريخ التحدث عن أساطير الإنسان القديمة، ومع التطور البشري، وبدأت تتجلى عقائد متعددة، والتي ربطت قوى الطبيعة بآلهة كثيرة. وحينما تقدم الجنس البشري في التطور، وربط هذه الظواهر الطبيعية بالعلوم الحديثة، بدأت تبرز مرحلة جديدة في التاريخ الإنساني من الديانات السماوية.
وبقدر ما تفهم الإنسان حقيقة حياته العملية على سطح الكرة الأرضية، بقدر ما حاول أن يربط بين غضب قوى السماء وقوى الطبيعة الخارجة عن إرادته، بأخلاقياته وسلوكة. وحاول الإنسان بغفرانه، وقرابينه، وعبادته، وصلاواته، أن يخفف من غضب قوى السماء، كما بدأ يتفهم أهمية الأخلاقيات في تنظيم قوى المجتمع، وربطها بالسلوك، كما حاول وضع أنظمة وقوانين تنظم السلوك البشري، وتوجهه نحو الالتزام بهذه الأخلاقيات، ومع الوقت تناغمت الروحانيات السماوية وأخلاقيات السلوك البشرية. وخير بلاد تجد فيه هذا التناغم العجيب بين هذه الروحانيات السماوية وأخلاقيات السلوك البشرية هي اليابان. فهناك أكثر من مائة وستون ألف معبد في اليابان نصفها معابد الشنتو والنصف الاخر معابد بوذية، لبلد به مائة وسبعة وعشرين مليون فرد، ويعيشون على مساحة من الجزر لا تتجاوز 350 ألف كيلومتر مربع، و80% منها غابات خالية من سكن البشر، كما يزور كل معبد من هذه المعابد ما يقارب 7 مليون مواطن ياباني لتقديم الاحترام والدعاء، بالاضافة للاستمتاع والاسترخاء في سياحة داخلية. وتلاحظ في اليابان التناغم الأخلاقي الجميل بين أفراد الشعب الياباني، والذي يجمع بين أدب وظرف فن المحادثة الكلامية والصامته، وهدوء وحكمة ضبط الأعصاب، وصدق وصراحة التعامل، وأمان وسلام السلوك. ليخلق كل ذلك نوع من الطمأنينة، والأمان، والحكمة، والراحة في المعيشة الحياتية باليابان. والعجيب بأن تناغم السلوك ترافق باحترام الوقت، ودقة الأداء، وحرفية المهنة، وإتقان العمل. وقد دفعني قوة هذا الضمير الروحي وأخلاقيات السلوك بين الشعب الياباني لطرح الأسئلة التالية على عزيزي القارئ: ما سر هذا التناغم الرائع بين روحانية الشخصية اليابانية، وجمال أخلاقيات سلوكها، وبراعة أدائها في العمل؟ وهل لذلك علاقة بتاريخ اليابان وروحه، عقيدة الشنتو؟
لتفهم هذا التناغم الروحي والأخلاقي والحرفي نحتاج وقفة على التاريخ الياباني، وخير كتابين يعرضان بدء تاريخ الشعب الياباني بروحانياته وأساطيره هما كتابي quot;الكوجوكيquot; و quot;النهون شوكيquot;، بالإضافة لمؤرخات أخري تتحدث عن تاريخ اليابان المعاصر. لقد بدأ التاريخ الياباني المدون بالعصر الحجري قبل حوالي 50 ألف سنة، وتطورت الحضارة اليابانية في عصر quot;الجيمونquot;، أي في عام 12,000 قبل الميلاد، حيث بينت الدراسات الأركيولوجية شيوع صناعة الفخار في ذلك الوقت. وقد استمرت هذه الفترة من التاريخ الياباني حتى عام 300 قبل الميلاد، ليبدأ عصر quot;اليايوئيquot; في عام 300 قبل الميلاد، وليمتد حتى عام 250 بعد الميلاد، ولتتطور في هذه الفترة زراعة الرز، وحياكة النسيج، وصناعة الحديد لاستخدامات الآلات الزراعية، وصناعة البرونز لتجهيز مقتنيات المعابد.
وقد برز أسم اليابان لأول مرة في المدونات البشرية في الكتب الصينية وفي مؤلفات عام 57 ميلادية، حيث كتبت تقول: quot;وراء المحيط، هناك شعب الوا (اليابان)، مكون من مائة قبيلة، يأتون للصين دائما لتقديم تحياتهم للإمبراطور.quot; كما ذكر في quot;كتاب الهن الأخيرquot;، بأن quot;سوشوquot;، ملك الوا ، كان يرسل العبيد إلى إمبراطور الصين quot;انquot; بدولة quot;هانquot; في عام 107. كما ذكر في كتاب quot;سانجو زيquot;، الذي كتب في القرن الثالث، بأن 30 قبيلة صغيرة توحدت، وحكمت، مملكة quot;شمانquot;، المسماة quot;هيكوquot; ومن quot;ياماتيكوكوquot;. وقد تطورت دولة اليابان بإدارتها، وعساكرها، في عصر quot;الكوفونquot;، في حوالي عام 250 بعد الميلاد، ولتبدأ بعدها خيط العائلة الإمبراطورية، بتكوين الحكم الإمبراطوري.
وقد نشأت دولة اليابان المعاصرة في عام 660 قبل الميلاد، حسب كتابي quot;كوجوكيquot; وquot;نيهونشوكيquot;، وبفضل الإمبراطور quot;جيموquot;، وهو السليل المباشر لآلهة الشمس quot;اماتيراسوquot;. ومنذ عصر quot;ناراquot;، في القرن الثامن، لم تكن القوة السياسية مسئولية الإمبراطور، بل تناقلت هذه القوة عبر التاريخ بين النبلاء، ولوردات الحروب، وقيادات العسكر، ومؤخرا رئيس الوزراء. وقد تحولت اليابان لدولة مركزية في القرن السادس بعد الميلاد بدءا بعصر quot;أسوكاquot;، لتصبح دولة حديثة، وبدستور للدولة، وبإصلاحات quot;تيكاquot;، وبقانون quot;تايوquot;. كما نقلت البوذية لليابان في عام 538 ميلادي، من خلال شعب quot;بيكجيquot;(كوريا حاليا)، ودعمت من الطبقة الحاكمة ولمصالحها الخاصة، بينما لم يكن في ذلك الوقت للبوذية شعبية بين المواطنين اليابانيين. وقد جاهدت الأميرة اليابانية، سويكو، في نشر البوذية، والثقافة الصينية، كما لعبت دورا في نشر الأمن والسلام المجتمعي بتطبيقها دستور كونفوشيوسي، يؤكد على أهمية أخلاقيات السلوك والفضيلة بين موظفي الدولة. وقد أرسلت الأميرة سويكو رسالة إلى إمبراطور الصين في عام 607 تؤكد فيها بأن: quot;أمبراطور الأرض التي تشرق فيها الشمس (اليابان)، يرسل رسالة لإمبراطور البلاد التي تغرب فيها الشمس(الصين).quot; لتعني الأميرة بذلك بأن عظمة اليابان مقاربة لعظمة بلاد الصين، وقد أغضب ذلك إمبراطور الصين، بل اعتبره تحديا لعظمة بلاده الشاسعة.
وقد بدأ عصر quot;ناراquot; الذهبي المزدهر في القرن الثامن، بدولة اليابان القوية، بعد ان انتقلت العاصمة إلى مدينة نارا، وبعد أن تحولت اليابان من فدرالية ضعيفة في القرن الخامس، إلى إمبراطورية منظمة، كالصين، في القرن الثامن، وبإمبراطور ذا سلطة مطلقة. كما نظمت الممارسات الثقافية والسياسية والاقتصادية، بعد أن تحددت المسئوليات الحكومية، كما تم مسح الأراضي، وسجلت رسميا من قبل الدولة، وتطورت طبقة ارستقراطية سيطرت على مداخيل الضرائب. وقامت الحكومة بتطوير الطرق، والمعابد، والدوائر الحكومية، وشبكة ري متطورة، وتطورت الثقافة اليابانية، وبدأ صراع بين العائلة الإمبراطورية والكهنة البوذيين. وقد انتقلت العاصمة في عام 784 إلى مدينة كيوتو، وبقت حتى عام 1868، كما تناغم بعدها العمل بين كهنة العقدتين الشنتو والبوذية، بعد صراع مرير.
وبدأ عصر quot;هيينquot; من عام 794 واستمر حتى عام 1185، وهي الفترة الاخيرة لتاريخ اليابان التقليدي، حيث بزغ شمس الأدب والشعر، وانتشرت كتب الأدب والتي من أشهرها رواية quot;جنجيquot;، والتي تعتبر من أقدم الروايات في التاريخ البشري الموجودة حتى الآن، والتي كتبتها السيدة شيكيبو موراساكي، كما أن هناك كتاب شعر بعنوان quot;كوكن واكاشوquot;، يرجع لنفس هذه الفترة. وقد سيطرت العوائل الارستقراطية على القوة السياسية بالبلاط الإمبراطوري، ومن أهمها قبيلة quot;فوجيواراquot;، والتي استمرت قوتها منذ عام 858 وحتى عام 1160، بفضل استمرار عملية التزاوج من العائلة الإمبراطورية لبناتها، حيث كان الكثير من أمهات الأباطرة من هذه القبيلة. وقد ضعف حكم هذه القبيلة بالحروب المتكررة، لتنتقل السلطة للعديد من عساكر القبائل المختلفة، ولينتهي الأمر لحرب أهلية في نهاية القرن الثاني عشر، وبعدها انتقلت السلطة لعساكر الشجون، لينتشر الاقطاع، وتزداد المعابد البوذية، بالإضافة لمعابد الشنتو. ولنا لقاء.
سفير مملكة البحرين في اليابان
التعليقات