من مفكرة سفير عربي في اليابان
ناقشنا في الجزء الأول من هذا المقال دور التقدم التكنولوجي في الاصابة بأمراض العصر، بعد أن لعبت التكنولوجية دورا أساسيا في التطور الاقتصادي والاجتماعي والصحي. وبينما عانت شعوب العالم من الأمراض الوبائية في القرن العشرين بدأت تنتشر الأمراض المزمنة اللاوبائية (السكري والضغط والكوليسترول والسرطان) في القرن الواحد والعشرين، وقد تبلوبر مفهوم جديد لهذه الأمراض بربطها بأمراض شيخوخة الخلايا. وهنا نحتاج للتفريق بين العمر الزمني والعمر البيولوجي، فيعبر مفهوم العمر الزمني عن السنوات التي استهلكت من عمر الإنسان، بينما يمثل العمر البيولوجي مدى كفاءة الخلية في أداء وظائفها بالجسم البشري. ولنتذكر عزيزي القارئ بأن الجسم البشري مكون من واحدات ميكروسكوبية خلوية صغيرة، تشكل أعضاء الجسم المتعددة، كالجهاز العصبي والعضلي والقلب والكلية، وهي التي تقوم بوظائف الجسم المحتلفة، من التفكير والحركة وحتى الأكل والتنفس والتبول. وتعتمد مدى نشاط وظائف هذه الأعضاء على كفاءة أداء هذه الخلايا في الاستفادة من الماء والهواء والغذاء الذي نستهلكه، وتعتمد كفاءة أداء هذه الخلايا على اداب سلوك حياتنا في التحدث والأكل والشرب والتدخين وشرب الكحوليات والرياضة والتعرض للضغوط الحياتية، وحينما تبدأ اضطراب أداء وظائف هذه الخلايا تبدأ وظيفيا الشيخوخة البيولوجية.
وهنا نحتاج وقفة عن علاقة العقل البشري بالضغوط الحياتية والشيخوخة الفيزيولوجية، فيتميز المخ البشري بكفاءة ذكاء خارقة، تتراوح بين الذكاء الذهني والاجتماعي والذكاء العاطفي والروحي الأخلاقى. ويحتاج الإنسان للذكاء الذهني لعملية جمع المعلومات وتحليلها وإصدار القرارات الرصينة، بينما يحتاج للذكاء الإجتماعي في التعامل مع أقرانة بلطف ولباقة وأدب واحترام. كما يحتاج للذكاء العاطفي للسيطرة على ردود الفعل الغاضبة، وتوجيهها بشكل إيجابي حكيم في خدمة مصالحه الشخصية والاجتماعية والوطنية. وقد جمع الخالق جل شأنه في العقل البشري بين ذكاء الإنسان الذهني وذكاءه الاخلاقي الروحي، وحينما يأخذ السلوك البشري في الانحراف عن الصدق والفضيلة، يبدأ صراع عقلي حاد، يؤدي لنشاط حاد في غدة الهرمونات الكظرية، لتبدأ بإفراز كميات هائلة من هرومونات الاسترويد والادراينالين. ومع أن هذه الهرمونات مهمة لكفاءة أداء وظائف الجسم المختلفة، ولكن الزيادة المفرطة في انتاجها، تؤدي لشيخوخة الخلايا مبكرا، لتبدأ أمرض الضغط والسكري والكولسترول والسرطان. فالزيادة المفرطة لانتاج الادرينالين، يؤدي لزيادة ضغط الدم، والذي قد ينتهي بانفجار شرايين المخ، مما يؤدي للسكتة والشلل الدماغي، كما تتلف باقي شرايين أعضاء الجسم البشري ليؤدي ذلك للهبوط الكلوي، وعمى نسبي في النظر. بينما تؤدي زيادة هرمونات الاسترويد في الدم لاضطراب استهلاك السكر والكوليسترول، لينتهي الإنسان بمرضي السكري والكوليسترول. فزيادة هرمونات الاسترويد تؤدي لزيادة تصنيع الجسم كميات هائلة من الكوليسترول الداخلي، والذي يؤدي لسد الشرايين والإصابة بالجلطة القلبية والدماغية. كما أن زيادة انتاج هرمونات الاسترويد تؤدي لاضطراب الاستفادة من استهلاك السكر في انتاج طاقة الخلايا، ليلعب دورا مهما في مرض السكري، باختلاطاته الخطيرة على المخ، والخرف المبكر للخلايا العصبية، وبتأثيره على شرايين شبكية العين لينتهي بالعمي الجزئي، وتلف شرايين الكلية، لينتهي بالهبوط الكلوي. فباختصار شديد السلوك اللإنساني واللاأخلاقي يكلف صاحبة الشيخوخة الفيزيولوجية بامراضها الخطيرة.
وقد حاول علماء اليابان دراسة مفهوم الشيخوخة الفزيولوجية وارتباطها بأمراض العصر، الضغط والسكري والكوليسترول والسرطان. وقد بينت الابحاث اليابانية بأن الشيخوخة الفزيولوجية للخلية مرتبطة بانخفاض مادة بروتينة اساسية، تسمى بالحمض الاميني اللينوليكي الاساسي. فعادة ترتفع نسبة هذا الحمض الأميني في الدم تدريجيا منذ الولادة وحتى السن السابعة عشر من العمر، وبعدها يبدأ في الانخفاض، ليصبح شبه معدوم في السن المائة والعشرين سنة، ولينتهي بشيخوخة الخلايا وموتها. وطبعا تعتمد نسبة انتاج هذه المادة في الجسم على العوامل الانفة الذكر في السلوك البشري في الاكل والشرب والتدخين والرياضة والسلوك الاخلاقي، وفي قمتها الضغوط الحياتية التي يتعرض لها الانسان. وقد بينت الأبحاث اليابانية علاقة انخفاض هذه الحمض الأميني بشيخوخة الخلايا والتعرض لأمراض السكري والكوليسترول والضغط.
ولنتوقف عزيزي القارئ هنا مع مرض السكري، حيث أدت جميع هذه الارهاصات التكنولوجية والحياتية لزيادة نسبة مرضى السكر في جميع أنحاء العالم، وبمختلف طبقاته. ولتفهم هذا المرض نحتاج لوقفة علمية مبسطة، حيث يتكون الجسم البشري من وحدات صناعية ميكروسكوبية خلوية دقيقة، وتحتاج هذه الخلايا للاستمرار في وظائفها لتوازن توفر الهواء والماء والغذاء. فمن المعروف بأن الماء وأوكسجين الهواء من أساسيات بقاء الكائنات الحية، وليستطيع الجسم البشري الاستفادة من اكسيجين الهواء يحتاج لعضلات تنفس تدفع الهواء للرئة، ولرئة سليمة تنقل الاكسيجين لخضاب الدم بالكريات الحمراء، ولخضاب دم سليم ينقل الاكسيجين من الرئة إلى خلايا الجسم المختلفة.
وتستخدم الخلية الاكسيجين لتحول المواد السكرية والدهنية لطاقة تستخدمها في بناء خلايا الجسم المختلفة. وتحتاج عملية بناء الخلايا لمواد بروتينية متنوعة، والتي من أهم أجزاءها الأحماض الأمينية. كما تحتاج الخلية لكثير من الاحماض الأمينية، ومن أهمها مادة الحمض الأميني اللينوليكي السالف الذكر، وهو مادة مهمة في تكوين خضاب الدم، وحينما تنخفض نسبته في الدم تضطرب عملية انتاج الطاقة في الخلية بتأثر عملية استهلاك الخلية للأوكسجين، مما يؤدي لبطئ استهلاك السكريات والدهون في عملية بناء والمحافظة على الخلية، مع زيادة نسبها في الدم لتبدأ الأمراض المرتبطة بالسكر والكوليسترول، كالجلطة القلبية والشلل الدماغي والخرف المبكر والسرطان وضعف البصر والقصور الكلوي.
ومع هذه التغيرات تضطرب عمل خلايا غدة البنكرياس، فينقص انتاج هرمون الانسولين، المهم في نقل السكر من الدم الى داخل الخلايا، مما يؤدي لزيادة اضطراب وظائف الخلية ليس فقط بنقص توفر الطاقة لاضطراب استهلاك الاوكسيجين، بل ايضا لعدم توفر الكمية الكافية من السكر لاستخدامه في عملية انتاج الطاقة، بالرغم من زيادة وجوده في الدم. ليؤدي كل ذلك لاضطراب استخدام الاغذية البروتينية في بناء خلايا الجسم، بل واضطراب عام في علية الاستقلاب، مع بدء أعراض مرض السكر واختلاطاته الخطيرة.
وقد تمكنت الأبحاث العلمية الكشف عن خفايا مرض السكر، بتفهم الية حدوثه ودور الهام لجينات المورثات في تطوره، مما أدى لتطوير طرق الوقاية منه وعلاجه. كما تطور مفهوم تطور هذا المرض مع أكتشاف نقص مادة الحمض الاميني اللينولي بتقدم السن، وتأثير ذلك النقص على تطور أمراض الشيخوخة ومنها السكري والضغط والكوليسترول والسرطان. كما تطورت العلاجات الدوائية لمتعلقة بتنشيط خلايا غدة البنكرياس لانتاح الانسولين، بالإضافة لتطور تكنولوجية الخلايا الجذعية التي تساعد في تكوين خلايا جديدة في غدة البنكرياس.
وقد بدأت تطورات مخبرية جديدة محاولة اكتشاف حلول جذرية لمرض السكري، ومن أهمها اكتشاف أهمية الخلايا الجذعية في علاج مرض السكري. فقد نشرت صحيفة اليابان تايمز في شهر مارس الماضي مقالا عن تقدم ياباني جديد في علاج مرض السكري، حيث تمكن الباحثين اليابانيين من تكوين خلايا منتجة للانسولين باستخدام تكنولوجية زرع الخلايا الجذعية الجنينية. وقد تحقق هذا التقدم الجديد بقيادة البروفيسور اتسوشي مياجيما الاستاذ بمركز العلوم البيولوجية الذرية والخلوية بجامعة طوكيو، وقد أكدت ابحاث فريقه المخبرية في الفئران بأنه تمكنوا من السيطرة على مرض السكر في الفئران بزرع خلايا جذعية، لتتحول لخلايا تنتج الانسولين في غدة البنكرياس.
كما أكتشف العلماء اليابانيين طريقة جديدة للحصول على الخلايا الجذعية من طبقة الشحم التي تغطي البطن. ففي طبقة الخلايا الشحمية توجد قليل من الخلايا الجذعية، وقد استطاع العلماء اليابانيين القيام بسحب طبقة الشحم من تحت جلد البطن وعزل الخلايا الجذعية عن الخلايا الشحمية، وبعدها، حضانة الخلايا الجذعية في المختبر، وتوفير الماء والغذاء والاكسيجين لها للتكاثر بأعداد هائلة. ويتم بعد ذلك حقن هذه الخلايا الجذعية في الجسم من خلال أرودة اليد. والجدير بالذكر بأن هذه الخلايا الجذعية تنتشر في الدورة الدموية ثم تتركز في الجزء المصاب من أعضاء الجسم لتتكاثر فيه وتتحول لنفس نوع خلايا العضو المصاب. فمثلا في اصابات جلطة القلب تتركز وتتكاثر هذه الخلايا الجذعية في عضلة القلب لتكون خلايا عضلية جديدة، وفي أصابات جلطلة المخ أيضا يمكن أن تتركز وتتكاثر هذه الخلايا الجذعية في الجزء المصاب في المخ لتشكل خلايا عصبية جديدة. ويقوم العلماء اليابانيين بدراسة امكانية الاستفادة من هذه الخلايا الجذعية في علاج مرض السكري بتركزها في غدة البنكرياس وانتاجها خلايا جديدة تنتج الانسولين لتنقذ مرضي السكري. ولنا لقاء.
سفير مملكة البحرين في اليابان