من مفكرة سفير عربي باليابان

في زيارة استطلاعية إلى مدينة كيوتو الثقافية لفت نظري تحفة quot;للملائكةquot; السبعة اليابانية، وحاولت من خلالها تفهم الازدهار الياباني، المرتبط بكفاءة الموارد البشرية، من خلال دقة الوقت، ومهارة الأداء، وتناغم العمل وأخلاقياته. ويحتاج تناغم العمل وأخلاقياته لدرجة ذكاء يجمع بين الذكاء الذهني لخلق عملية تفكير متأنية، وذكاء عاطفي لتكوين قرارات بعيدة عن الانفعالات العاطفية، وذكاء روحي يتفهم تداخل الحقيقة بالخيال مع قوانين الكون بعقائده وأساطيره، لتجنب معارك ايديولوجية امتلاك الحقيقة المطلقة واستبدالها بتفكير احتمالات الحياة المتناقضة، ويكملها ذكاء اجتماعي ليتواصل الإنسان مع أقرانه بلطف واتزان، لتوفير استقرار المجتمع وتنميته. والسؤال: ما هي مميزات الشعب اليابانية التي تجاوز بها أخطاء الحرب العالمية الثانية، ليحول بلاده إلى مجتمع التناغم والأخلاقيات والحكمة والسلام، ليحقق تقدم اجتماعي وعلمي وتكنولوجي واقتصادي باهر؟ وما علاقة كل ذلك بالروحانيات اليابانية وأساطيرها؟ وهل ستستفيد شعوب منطقة الشرق الأوسط من هذه التجربة لفهم روحانيات التناغم الديني لتحقيق استقرار وازدهار المنطقة وسعادة شبابها؟
ترتبط سر إنتاجية المواطن الياباني وأخلاقياته بفلسفة عقيدة الشنتو، quot;الطريق الروحي للحياةquot;، والتي يمكن تفهم فلسفتها من خلال دراسة كتابين أساسيين quot;الكوجيكيquot; و quot;النهون شوكيquot;. وقد أهتم البلاط الإمبراطوري الياباني بجمع أجزاء كتاب quot;النهون شوكيquot;، ويعتقد السيد كونن شيكي بأن هذا الكتاب جمعه الأمير تونيري، وكتبه يوسومارو فوتو نو اسون، وقدم بعد تكملته للإمبراطورة جيميو في عام سبعمائة وعشرين. ويدرس تاريخ اليابان وعقيدة الشنتو منذ القدم وحتى عام ستمائة وسبعة وتسعين، ويعرض الكثير من المفاهيم من خلال أساطير، يكررها الشعب الياباني، ويستفيد من حكمة حوادثها. ويغطي بالأخص تاريخ فترة الاسوكا (552-645)، التي تعرضت اليابان للتأثر بالحضارة الصينية والديانة البوذية، كما يعرض الحوادث التاريخية بصياغات مختلفة حسب المراجع المستقاة منها، ويسمح للقارئ أن يقرر الصياغة القريبة من الواقع في ذهنه، وبدون وصاية. وقد يكون ذلك أسلوب مهم لدي الشعب الياباني في التعامل مع التاريخ والعقيدة، فليس هناك حقيقة مطلقة مفروضة بالقسر، بل جميعها احتمالات قابلة للنقاش، وبتناغم روحي جميل.
وقد استطاعت عقيدة الشنتو الدخول لضمير الشعب الياباني وفي أخلاقيات سلوكه، وحتى موضوع الموت والآخرة، تتعامل معها بسلالة، فتخلد الروح بعد الموت، لتحوم حول البشر، وترتفع للسماء لتدور حول الغابات والأشجار والأنهار. وإذا عمل الشخص خيرا لمجتمعه، قد ترتفع روحه بعد الوفاة لدرجة الملائكة (الكامي)، ليصبح ملكا، تبنى له المعابد لتحوم روحه حولها. كما أنه من التقاليد اليابانية أن يتواجد في البيت معبد صغير، بحجم صندوق متوسط الحجم، به مرآة معدنية لتعكس روح الميت. ولا تناقش الشنتو مصير الخطاءين في حياتهم كثيرا، ولم يكتب إلا القليل المبهم عما سيحدث للمخطئ بعد مماته، بل تتحدث عن نتيجة العمل الطيب في الدنيا، فصاحب العمل الطيب يموت موته هنيئة، وتحوم روحة بين جمال الطبيعة، لتشجع الناس على عمل الخير، بدون الخوض العميق في ما سيحدث حين يخطأون.
وقد بوب هذا الكتاب في ستة عشر فصلا، ويتحدث الفصلان الأول والثاني عن بداية ولادة آلهة quot;الكاميquot;، بينما تركز باقي الفصول على تاريخ أباطرة اليابان، ويبدءا بالحديث عن إلامبراطور الياباني الأول quot;جيمو فينوquot; ويستمر حتى آخر الأباطرة rdquo;جيتو تينوquot;، التي حكمت في عام الأربعمائة وتسعة وتسعين. ويوصف الفصل الأول بدء الكون من كتلة كونية هلامية تشبه البيضة، وبحدود مبهمة، وتحتوي على مجموعة من النطف، لينسحب الجزء الصافي النقي بتأني، ويتحول إلى السموات، بينما تحول الجزء الثقيل والكثيف إلى كتلة الأرض، وأخذت آلهة الكامي (التي تعني بالمفهوم الشرق أوسطي ملائكة الروح) تتشكل بينهما. ويبداء الكتاب بوصف ولادة آلهة الكامي الواحد تلو الآخر، ومن أهم هذه الآلهة هما ازناجي وازنامي، التي أمرت الإلهة بزواجهما لتبدءا ولادة جزر اليابان وأباطرتها وشعبها. وقد ولدت الإلهة ازنامي ابنتها إلهة الشمس، وهي الإلهة التي استمرت ترعي اليابان على مدى العصور، وهناك معبد جميل لإلهة الشمس، بمدينة ايسه الروحية، في وسط غابة خلابة.
ويتحدث الكتاب في الفصل الثالث عن أول أباطرة اليابان، وهو الإمبراطور جيمو تنو (الإله المحارب)، وهو أحد أحفاد إلهة الشمس quot;أمترا سوquot;، وهو الابن الرابع للإله هيكو ناجيسا، ووالدته تامايوري، إلهة البحر، وقد كان ذكيا منذ ولادته، وتوج إمبراطورا في الخامسة عشر من عمره، وتزوج من اهيرا تسو هيم. وقد برزت مهارته في الحكم حينما بلغ الخامسة والعشرون، حيث قرر أن يدير كل مدينة لورد منها، وأن يرأس كل قرية أحد أهاليها، ليقرروا حدود منطقتهم، وطريقة الدفاع عنها ضد الاعتداءات والعنف، وسبل تطوير اقتصادها. ويؤكد الكتاب بأن العهد الإمبراطوري في اليابان بدأ في عام 667 قبل الميلاد، كما صور المعارك الذي خاضها الأمبراطور، وكيف قتل أخوه في أحدى هذه المعارك.
وينتهي الكتاب في فصله الثلاثين بعرض تاريخ الإمبراطورة جيتو تينو، التي كانت محافظة السلوك ومتحررة الفكر، وتزوجت من الإمبراطور امي نو نانهارا، فرزقت بالأمير كوساكابي، وقد حكمت البلاد بحزم وأدارت الجيش بكفاءة، كما اكتشفت خيانة الأمير اهوتسو، فتم اعتقاله وحكم عليه بالموت، وحينما رغبت زوجته أن ترافق زوجها في موته، وافق جميع من حضر على هذه الرغبة. ويتحدث الكتاب واقع القصر الإمبراطوري بتواريخ دقيقة، فمثلا في اليوم الأول من الشهر الثاني عشر صدر قرار إمبراطوري بأن يقنع الرهبان سنويا عشرة من الأشخاص لاعتناق الديانة البوذية، وفي اليوم الثامن من الشهر الخامس أرسل وفد إمبراطوري لمختلف المعابد للصلاة لنزول المطر، وفي اليوم الثاني من الشهر السادس من نفس العام عفت الإمبراطورة عن بعض المجرمين، وفي اليوم السادس صدر أمر إمبراطوري بقراءة السوترا البوذية في معابد المحافظات، وفي اليوم التاسع عشر وزعت العطايا لآلهة الأرض والسموات، وفي اليوم السادس والعشرين بداء الوزراء ببناء مجسم لبوذا للدعاء لشفاء الإمبراطورة، وفي اليوم الأول من الشهر الثامن تنازلت الإمبراطورة عن العرش.
تلاحظ عزيزي القارئ بأنه في عام 667 قبل الميلاد كانت هناك إمبراطورية متطورة في اليابان، وقد تحدث الرهبان الذي قابلتهم عن قصص آلهة الكامي كأساطير قديمة، ولكن كان الشعب الياباني يتفهمها ويحترمها حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، وبعدها تعرض الشعب الياباني لصدمة عنيفة وشكك في تاريخه وتقاليده وعقائده، ومع الوقت درس هذا التاريخ دراسة متفحصة، وفرق بين مفاهيم الأسطورة وروحانيات العقيدة بدون تطرف أو تعصب. ومع أن الكثير من اليابانيون يؤكدون بأنهم غير متدينين، ولكن تلاحظ الجميع يحترم تاريخه وعقائده بدون تزمت، ويزور المعابد للسياحة والدعاء، ويلتزم بروحانيات اخلاقياته في العمل والسلوك اليومي.
وقد لعبت عقيدة الشنتو دورا مهما في عملية التناغم بين الإنسان والطبيعة، بالإضافة لمهارة الأداء في العمل ودقته، وحسن أخلاقيات سلوكه، وجمال التعامل مع أقرانه. وتلاحظ ذلك واضحا حينما تزور معبد إلهة الشمس، الذي يقع في وسط غابة كبيرة، وبجانبه معبد صغير نسبيا لإلهة مضار الشمس حينما تغضب إلهة الشمس، وفي الطرف الاخر يوجد معبد إلهة الطعام، ويهيئ في هذا المعبد الطعام لإلهة الشمس ثلاث مرات يوميا. والجدير بالذكر بأن معبد الهة الشمس يتم تغير مكانه ويكرر تشيد بناءه كل عشرين عاما، للمحافظة على شباب إلهة الشمس، بالإضافة لنقل مهارة البناء للأجيال القادمة. وهناك متحف لمعبد إلهة الشمس يبين المهارة الفائقة في البناء، حيث يتم بناء هذا المعبد من أخشاب الغابة، وبدون استخدام أي مادة مصنعة كالمسامير، وتلاحظ الدقة المتناهية في تجهيز قطع الخشب وتركيبها. ومن هنا يمكن أن نتفهم ليس فقط سر دقة العمل واحترام الوقت في الروحانيات اليابانية، بل أيضا روحانيات الالتزام بأخلاقيات العمل والإخلاص فيه.
ولنكمل حوارنا عن quot;الهة الكاميquot; السبعة أو بالأصح بالمفهوم الشرق الاسلامي quot;ملائكة الروحquot; السبعة اليابانية، فهناك تعبير شائع في اليابان، ممثل بكلمة quot;شيشفو كوجنquot;، وتعني الالهة السبعة المحظوظين، وهم: quot;إيبسوquot; إلهه السماكين والتجار، وquot;ديكوكوquot;، إلهه الثراء والتجارة، وquot;بنتنquot; إلهه المعرفة والفن والجمال، وquot;هوتايquot;، إلهه الصحة والغذاء، وquot;جوروجينquot;، إلهه طول العمر، و quot;فكورو كوجوquot;، إلهه السعادة والغناء، وquot;بشامونquot;، إلهه المحاربين.
وتمثل هذه الالهة السبعة تناغم ياباني جميل بين الثقافة والروحانيات اليابانية والهندية والصينية. فيعتبر quot;إبسوquot; إلهه عقيدة الشنتو اليابانية، بينما تعتبر quot;ديكوكوquot; وquot;بنتنquot; وquot;هوتايquot;، الهة الروحانيات الهندوسية البوذية الواردة من الهند، بينما ترجع quot;جوروجينquot; و quot;فكورو كوجوquot; وquot;بشامونquot;، إلى الثقافة الروحية الطاوية البوذية الصينية الأصل. وتبين الأسطورة اليابانية بأن هذه الالهة السبعة تتجول في سفينة الكنوز، وتزور الموانئ اليابانية في ليلة عيد السنة، لتوزع السعادة على الشعب الياباني، كما توجد لها معابد يزورها الشعب الياباني للسياحة والتبرك. ويعتقد اليابانيون بأن هؤلاء الالهة السبعة يزورون المواطنين الطيبين ويوزعون عليهم بركاتهم، كما يستلم الاطفال منهم ظروف حمراء معدة من عائلاتهم ليلة السنة الجديدة، تحتوي على مبلغ من النقود اليابانية. ولنا لقاء.

سفير مملكة البحرين باليابان